في عمق الصحراء الكبرى، حيث تتهادى الكثبان الرملية كصفوف من الموج المتجمد تحت شمس لا تعرف الرحمة، وحيث الليل يهبط كغطاء أزرق يلمع بالنجوم، ويمد الصمت سلطانه على كل شيء، تولد رقصة اللوين من رحم الأرض والسماء. إنها ليست مجرد حركة أجساد ولا مجرد إيقاع طبل يقرع في يد امرأة طارقية، بل هي نداء صوفي، وإعلان عن انصهار الفرد في الجماعة، وعودة الروح إلى أصلها الأول. إن اللوين ليست رقصة للزينة أو للتسلية العابرة، بل هي ذاكرة شعب بأكمله، تختزن في خطواتها قصص الرحيل والعودة، وصرخات الحب الممنوع، وأنين الحنين الذي يسكن الصحراء منذ آلاف السنين.
حين يتحدث الطوارق عن اللوين، فإنهم يتحدثون عن أكثر من مجرد فن أدائي، إنهم يتحدثون عن طقس اجتماعي، عن جسد يترجم ما تعجز اللغة عن قوله، وعن إيقاع يختصر الحياة بكل تناقضاتها. فاللوين هي النغمة التي توحّد الأصوات في انسجام، وهي الجسر بين الأجيال، وهي العلامة التي تميّز الطوارق وتضعهم في صميم الثقافة الصحراوية. النساء يقفن في صف مستقيم، يزينهن لباس “التاغلموست” بألوانها القاتمة والغامضة، وأمامهن الرجال في صف مقابل أو دائرة متراصة، يواجهون بعضهم البعض وكأنهم يدخلون في حوار أبدي، لا بالكلمات وإنما بالإيقاعات والحركات. تصفيقات الأيادي ليست عشوائية، إنها قانون إيقاعي صارم، يحكمه الطبل “تندي” الذي تمسكه امرأة خبيرة، تضرب عليه بيد من خشب ويد من لحم، فينتج الصوت الذي يشبه نبض الأرض نفسها.
اللوين تحمل في طياتها رمزية غنية، فهي إعلان عن وحدة الجماعة، عن التلاحم الذي لا يترك مكانًا للانقسام، حيث يذوب الفرد داخل الصف، وتصبح الخطوة الواحدة صوتًا للكل. إن الراقص لا يرقص باسمه الخاص، وإنما باسم قبيلته، وباسم الصحراء التي منحته المعنى. ولعل هذا ما يجعل الرقصة محمولة على بُعد روحاني؛ إذ يرى الطوارق أن الإيقاع الجماعي يبعث الطمأنينة في القلب، ويزيل ثقل الوحدة التي يفرضها الفراغ الصحراوي. فالإنسان هنا ليس وحيدًا، بل جزء من موجة بشرية تتحرك معًا، تتنفس معًا، وتطلق أصواتها في انسجام تام.
الموسيقى المصاحبة للوين بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في أثرها. الطبل يعلن البداية، والنساء يطلقن زغاريد طويلة، أشبه بصرخات النصر والبهجة، بينما يتناوب الرجال على إنشاد أهازيج قصيرة، تُمجّد الفروسية، وتصف جمال المرأة، وتستعيد قصص الحب والصراع في حياة الطوارق. وبين هذه الأصوات، يرتفع أحيانًا صوت “إمزاد”، تلك الآلة الوترية التقليدية، التي لا تعزفها سوى النساء، فيضيف لحنها الطويل والممتد بُعدًا حزينًا، كأنه تذكير بأن الفرح لا ينفصل عن الحزن في حياة الصحراويين، وأن كل ابتسامة في اللوين تخفي وراءها دمعة قديمة.
اللوين أيضًا مناسبة اجتماعية ذات وظيفة واضحة، فهي ساحة تعارف بين الشباب والفتيات. ففي إطار التقاليد الطارقية، حيث الحشمة تفرض قيودها، تصبح الرقصة مجالًا لتبادل النظرات، وتلميحات الحب، والاعترافات الصامتة. إن الصفوف المتقابلة ليست مجرد ترتيب جسدي، بل هي حوار رمزي بين الجنسين، حيث تسأل الأعين وتجيب الإيقاعات، وحيث يمكن أن يولد حب عميق من مجرد تمايل مشترك. بهذا المعنى، اللوين ليست رقصة فحسب، بل هي وسيط اجتماعي، يفتح مجالًا للقاء في مجتمع تحكمه القيم والعادات الصارمة.
واللوين، مثل غيرها من الفنون الشفوية، تنقل التراث من جيل إلى جيل. فالطفل الذي يشاهد أمه وهي تضرب على التندي، وأباه وهو يصفق وينشد، يكبر وهو يحمل الإيقاع في دمه. إنها مدرسة غير مكتوبة، حيث يتعلم الإنسان معنى الانتماء قبل أن يعرف الكتابة، ويتشرب القيم الجماعية قبل أن ينطق بجملته الأولى. ولهذا السبب، فإن اللوين ليست مجرد فن مهدد بالاندثار، بل هي هوية بأكملها، إذ ما إن تتوقف الأقدام عن الرقص، حتى يخبو جزء من روح الصحراء.
ومن زاوية أخرى، اللوين فعل مقاومة ناعم. فالصحراء التي حاول الاستعمار تهميشها وتجريدها من صوتها، وجدت في هذه الرقصة وسيلة لإعلان وجودها. كلما دق الطبل في ليل مظلم، كان ذلك إعلانًا أن الطوارق ما زالوا هنا، أنهم شعب لا يموت، وأن ثقافتهم ليست ورقة في كتاب تاريخ، بل جسد حي يتنفس في كل لحظة. إن اللوين هي بقاء الذاكرة في مواجهة النسيان، وهي صوت من لا يملك منبرًا سياسيًا، لكنها تصرخ عبر الجسد والإيقاع لتقول: نحن موجودون.
تأمل هذه الرقصة يكشف لنا أيضًا عن نظرة الطوارق إلى الجمال. فالخطوة ليست عشوائية، بل تتسم برهافة وانسجام. الأجساد تتحرك بخفة، وكأنها نسيم يمر بين الكثبان، لا قسوة فيها ولا جموح. إنها جمالية تقوم على الانضباط والانسجام، لا على الفردية والاستعراض. في عالم غربي معاصر يمجّد الجسد الفردي وحركته الخاصة، تقف اللوين كصرخة مضادة، تذكّر بأن الجمال يمكن أن يكون في الذوبان، في الانسجام، في الانتماء إلى الكل. إن الجمال هنا جماعي، وكل انحراف عن الإيقاع الجماعي يعد خرقًا للمعنى.
الرقصة، بهذا المعنى، تعكس فلسفة الطوارق في الحياة. فكما أن الفرد يذوب في الجماعة أثناء اللوين، فإن الإنسان في الصحراء لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين. الصحراء قاسية، وهي تعلم الناس أن النجاة لا تكون إلا بالجماعة، وأن اليد الواحدة لا تستطيع مواجهة العواصف ولا اجتياز الفيافي. وهكذا، تصبح اللوين تدريبًا على معنى التلاحم، ورمزًا لمبدأ التضامن الذي يشكل أساس الوجود الطارقي.
ورغم بساطتها، فإن اللوين تحمل قوة جمالية تجعلها تتجاوز حدود الصحراء. فحين يشاهدها الغريب، حتى لو لم يفهم لغتها أو رموزها، فإنه يشعر بسحرها. ثمة شيء بدائي وعميق في تكرار الإيقاعات، في تمايل الأجساد، في تلاحم الأصوات. إنه شيء يوقظ فينا الإنسان الأول، الذي كان يرقص حول النار، ويحتفل بالحياة رغم قسوتها. ومن هنا، يمكن القول إن اللوين ليست فقط ملكًا للطوارق، بل إرثًا إنسانيًا مشتركًا، يعبر عن حاجة البشر جميعًا إلى الرقص، إلى الذوبان في الإيقاع، إلى النسيان المؤقت لثقل الحياة.
إن ما يميز اللوين عن غيرها من الرقصات التقليدية في العالم، هو أنها بقيت قريبة من طبيعتها الأولى. لم تتحول إلى عرض سياحي مصطنع، ولم تتلوث بروح الاستعراض التجاري، بل ظلت مرتبطة بالليل الصحراوي، وبالمناسبات الحقيقية للناس. هذه الأصالة هي ما يمنحها قوتها وسحرها، لأنها رقصة لم تولد لإرضاء النظارة، بل لإرضاء حاجة داخلية في الإنسان الطارقي، حاجة إلى الانسجام، إلى الفرح، إلى إعلان الوجود.
وفي زمن الحداثة، حيث تهدد العولمة الثقافات الصغيرة بالاندثار، يظل الحفاظ على رقصة مثل اللوين تحديًا. فالأجيال الجديدة قد تجد نفسها أكثر انجذابًا إلى الموسيقى الحديثة، إلى الرقصات القادمة من وراء البحار. لكن قوة اللوين تكمن في رمزيتها، وفي قدرتها على أن تمنح الانتماء. فمن يرقص اللوين، يشعر أنه جزء من تاريخ طويل، وأنه يحمل ذاكرة أجداده في خطواته. لهذا، لا يمكن للوين أن تختفي، لأنها ليست مجرد رقصة، بل هي هوية وذاكرة وروح.
إن اللوين، في النهاية، هي مرآة للروح الطارقية: بسيطة وعميقة، جماعية وفردية، مفرحة وحزينة في آن واحد. هي إعلان عن حب للحياة رغم قسوة الصحراء، ورمز لوحدة القبيلة رغم تهديد التشتت، وصوت يعلو فوق صمت الرمال ليقول إن الفن أبقى من الزمان والمكان. إنها الرقصة التي تبرهن أن الإنسان، في مواجهة العدم، يبتكر الجمال كوسيلة للبقاء، وأن الإيقاع يمكن أن يكون لغة، وأن الجسد حين يتحرك في انسجام مع الآخرين، يصبح صلاة جماعية ترفعها الصحراء إلى السماء.
وهكذا تبقى رقصة اللوين أكثر من مجرد فن شعبي، إنها تجربة إنسانية كاملة، تعلّمنا أن الجسد يمكن أن يكون ذاكرة، وأن الصوت يمكن أن يكون خيطًا يصل الماضي بالحاضر، وأن الصحراء، رغم فراغها، مليئة بالحياة حين يدق الطبل وتتمايل الأجساد على إيقاع واحد. اللوين ليست مجرد رقصة، إنها رواية تُحكى بلا كلمات، وأسطورة تُعاد كل ليلة، ومرثية وفرح في آن واحد، إنها الدليل أن الإنسان لا يرضخ للصمت، بل يحوّله إلى إيقاع، إلى حياة، إلى رقص خالد في قلب الرمال.
رابط مختصر: https://eldjanoubelkabir.dz/4lmy
