في فضاء إيموهاغ في الصحراء الكبرى، حيث تتوارث القبائل أسرار الرمل والطين، ظلّ الطبل أقدم وسائل التعبير الجماعي، وأول الأصوات التي نطقت بها الخيم الصحراوية والدور القصورية، قبل أن تكتب الكلمات على الورق. هناك، بين القصور الطينية والواحات الهادئة، لم يكن الطبل مجرّد أداة إيقاع، بل طقسا مقدسا، وسلاحا رمزيا، وصوتا يحمل رسائل لا تصلها الخيول ولا الرسل.
يعرف عند إيموهاغ باسم «أًطَّبَلْ»، وهو آلة إيقاعية كبيرة تُصنع من إطارٍ نحاسي أو خشبي يُشدّ عليه جلد الإبل، وتُقرَع عليه عصيّ جلدية محشوة بالصوف أو الوبر. كان يُحمل عادةً من طرف رجلين قويين يتبادلان الضرب بإيقاعٍ محسوب، يبعث في الصحراء أو ساحات القصور دويًّا يسمعه القريب والبعيد.
لكن عظمة الطبل لا تكمن في صوته وحده، بل في قانون الضربات الذي يحكمه. فكل نغمة تحمل رسالة محددة:
- اثنتا عشرة ضربة متواصلة: إعلان الحرب أو وقوع غارة.
- ثماني ضربات فقط: زوال الخطر.
- ثلاث ضربات متكررة: دعوة مجلس مشايخ القبائل.
- ست ضربات متباعدة: توقع غزوة.
- ضربتان تُعادان ليلًا: فقدان قافلة.
بهذا النظام الصوتي الدقيق، تحوّل الطبل إلى لغة قائمة بذاتها، لغة من ضربات ووقفات وصمتٍ بينيّ، كانت كفيلة بأن تنقل الأخبار وتوحد الصفوف دون كلمة واحدة.
في مخيال الرجل الأزرق، لا يُقرع الطبل إلا بإذن المجلس الشوري لدى القبائل، أو الزعيم الأعلى، فهو ليس أداة موسيقية فحسب، بل رمزٌ للسيادة والشرعية، أشبه بختم الدولة أو تاج الملك في الحضارات الأخرى.
وعندما يُقرَع في قلب الواحة، يلتفّ الناس حول الصوت كما يلتفون حول النبأ العظيم. إنه إعلان عن حدثٍ جلل، وصوت الجماعة في لحظة القرار. لذلك ظلّ الطبل محفوظا بعناية، لا يُستعمل إلا في الظروف الاستثنائية، ولا يقترب منه إلا من يعرف وزن الإيقاع وقداسة الصدى.
ولأن الصحراء لا تعرف الجدران، فقد كان الصوت وسيلة السيادة، والقرع وسيلة التذكير بأن القبيلة حيّة، وأن حضورها يمتدّ أبعد من حدود الرمل.
الطبل كطقس جمعي
في الطقوس القديمة، كان للطبل دورٌ يتجاوز الإنذار والرسائل. ففي التجمعات الاجتماعية المختلفة والتي تنذر الناس للتجمع، يعلن الطبل بداية الطقس، ويستدعي الذاكرة إلى ساحة الحضور والهبة التضامنية.
ففي تلك اللحظة، يتحوّل الصوت من نداء الحرب إلى استدعاء الجماعة للهبات التضامنية ، ومن وسيلة دفاع إلى وسيلة تلاقي، وكأنّ إيموهاغ أرادوا أن يذكّروا أنفسهم أن الصوت الذي جمعهم للدفاع عن أرضهم يمكنه أيضًا أن يجمعهم للتعبير عن وجودهم وتجذرهم.
إنه إيقاع الهوية، الذي يصالح بين الماضي والحاضر، بين القوة والجمال، بين الحرب والسلم.
الرمزية الحديثة للطبل
في العصر الحديث، تراجع صوت الطبل عموما في الصحراء وفي القصور أيضا، لكن رمزيته لم تندثر.
لم يعد الطبل وسيلة إنذار، بل أصبح رمزا للسلام والذاكرة الجماعية. يُقرع اليوم ليذكر الناس بأنهم ما زالوا أبناء رمل واحد وصوت واحد، مهما تغيرت الأزمنة.
لقد تحول الطبل إلى شعار ثقافي يربط بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة. فحين يسمعه الزائر اليوم، لا يسمعه كإيقاع فني فحسب، بل كصدى لتاريخٍ طويل من الصمود والتآلف.
إنه صوت يذكر بأن في داخل كل مجتمعٍ بدوي قديم، نظاما دقيقا واتصالا روحانيا بالعالم، لا يقلّ حكمة عن أي تكنولوجيا حديثة.
يعيش الطبل اليوم تحوّله الرمزي من أداةٍ نفعية إلى أيقونة هوية.
لم يعد يُستعمل لتوجيه القبائل أو إعلان الحرب، بل لتذكير الأجيال بأن هناك صوتا واحدا وحّد الناس يوما ما.
تراه في المهرجانات يقرع بأيد شابة، أمام جمهورٍ من الزوار والسياح، لكن صداه ما زال يحمل نفس الشحنة القديمة: نداء الانتماء، صدى الجماعة، ورهبة الصحراء.
قد تتغير الأزمنة، لكن الأصوات تبقى. والطبل هو ذاكرة الصوت في الصحراء، الشاهد على لحظات الخطر والفرح، على الحرب والسلام، على قيام القبائل وانطفائها.
لقد كان صوته في الماضي رسالة تُسمع من واد إلى آخر، أما اليوم فهو رسالة تُسمع في القلب.
وما بين الطقس القديم والرمزية الحديثة، ظل الطبل يحتفظ بمكانه في وجدان الإنسان الإيموهاغي، لأنه ببساطة، أكثر من آلة… إنه صوت الوجود في فضاء لا حدود له.
صدى يستمر…
في زمن تتزاحم فيه الأصوات وتتداخل فيه الرسائل، يظل للطبل نغمة واحدة صافية: أننا كنا هنا، وما زلنا.
صوته لا يُقرع فقط من أجل الماضي، بل من أجل المستقبل أيضا؛ من أجل أن يسمع الأبناء ما كان يقوله الأجداد حين كانت الكلمة تُقرع لا تُقال.
ففي صحراء تُغنّي بالرمل والطين، لا شيء أبقى من الإيقاع، ولا شيء أصدق من صوت الطبل حين يتردد في الفضاء كأنه قلب الأرض ينبض بالحياة.
