لقد كان الأسبوع الثاني من شهر غشت حافلا بالأحداث الساخنة المتعلقة ببؤرة التوتر في أوربا، قمة ألاسكا تحمل العديد من الدلائل والرسائل بين روسيا وأمريكا، أعقبتها قمة واشنطن بين الرئيس ترامب والقادة الاوربيين، بين القمتين أثبت اللاعب الأمريكي انه الرقم صعب، وأنه مفتاح كل الازمات والتفاهمات، في حين برزت ان الحوار المباشر بين مختلف الفرقاء هو السبيل الوحيد لتجاوز الخلافات وتفادي سيناريو الأسوأ الحرب المدمرة وآثاره الوخيمة على المنتظم الدولي.
شكلت قمة ألاسكا التي جمعت الرئيسين الأمريكي ونظيره الروسي في قاعدة عسكرية تابعة للقوات الجوية الأمريكية الحدث الأبرز هذا العام، إذ يعتبر اللقاء الأعلى قمة بين الرئيس الروسي وزعيم غربي بحجم الولايات المتحدة الأمريكية منذ بدأ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، منذ قرابة الأربع سنوات، جاءت هذه القمة بعد جولة مفاوضات وتفاهمات تمت بين العاصمتين واشنطن وموسكو والاتفاق حول مكان اللقاء والنقاط التي سوف تتم مناقشتها خلال انعقاد القمة الروسية الأمريكية، وفي ذات الوقت حملت هذه القمة العديد من الرسائل المشفرة والواضحة وكانت لها تداعيات سريعة إذ لم يمض على لقاء ترامب وبوتين أسبوع واحد حتى سارع القادة الأوربيين ومعهم الرئيس الاوكراني لزيارة واشنطن ولقاء الرئيس الأمريكي ترامب لبحث نتائج القمة حتى لا تكون أوربا مستبعدة عن أي تفاهمات من شأنه المساس والاضرار بمصالحها وأمنها القومي.
تتسارع الأحداث تباعا في العالم في مؤشر الى انتقال الصراع من الدائرة المغلقة، واكتفاء كل لاعب بما حققه من انجاز، أين حصلت روسيا على أراضي هامة من شرق أوكرانيا أضافتها إلى شبه جزيرة القرم، واحداث الطرف الغربي أضرار بالغة وصلت حتى العمق الروسي، لقاء الرئيسين ترامب وبوتين في قمة ألاسكا يحمل العديد من الدلالات في مقدمتها ترتيب الأولويات في أجندة الولايات المتحدة الامريكية، فالاستماع للجانب الروسي يحظى بأهمية بالغة قبل الانصات الى الاوربيين الذين هم في الأصل حلفاء للولايات المتحدة الأمريكية، واللقاء الذي تم عقده في القاعدة العسكرية واستعراض بعض القطع الجوية الامريكية يحمل رسالة الى الجانب الروسي والاوربي وحتى بقية دول العالم، أن القوة وحدها من يحدد النفوذ، ومن جهة أخرى صراعات القوى الكبرى لا تحسمها المؤسسات الدولية كمجلس الامن الدولي او محكمة الجنايات الدولية، في مؤشر على هشاشتها واستخدامها كأداة لمعاقبة الأنظمة الأخرى المعادية للسياسات الليبرالية الغربية والخارجة عن طوعها، قمة ألاسكا التي لم تدم سوى بضع ساعات كانت كافية لمعرفة حدود أوربية الأمنية الجديدة، وما على الجانب الغربي ان يقدمه من تنازلات وما هو منتظر من الجانب الروسي من التزامات، وعليه يطرح التساؤل الأهم هل وصل القادة الاوربيين ومعهم الرئيس الاوكراني إلى العاصمة واشنطن متأخرين؟ وهل سوف يطلعهم الرئيس الأمريكي على كامل الحيثيات المتعلقة باجتماعه مع نظيره الرئيس الروسي بوتين الذي بدى واثقا من خطواته واقتناعه بتحقيقه للنصر العسكري والدبلوماسي، الإجابة المؤكدة أن الولايات المتحدة الامريكية تضع في الحسبان أمنها بالدرجة الأولى قبل امن الجانب الأوربي، ولا يمكن المغامرة بالذهاب إلى حرب عالمية ثالثة مدمرة لا تعرف نتائجها أو يكون المستفيد الأول منها الجانب الصيني، قمة ألاسكا قلبت الموازين رأسا على عقب منذ وصول الرئيس ترامب إلى سدة الحكم وإبدائه عدم حماسه لاستمرارية الحرب ودعم الجانب الاوكراني بالأسلحة والذخيرة الكافية، فمطالب الاوربيين في العاصمة واشنطن بدت أقرب إلى مطالبة الجانب الروسي بضمانات كافية في وقف عملية التوسع واقتطاع أراضي الدول المجاورة لحدوده، سيما التي تكون أقرب للجانب الغربي وتعبر عن رأيها صراحة في الانضمام لحلف الشمال الأطلسي.
إن أكبر درس يمكن الوقوف عليه، أن الهشاشة الأمنية تمس كل قارات العالم بما فيها القارة الاوربية، وحدود التماس بين القوى الكبرى روسيا أمريكا والصين تقترب أكثر فأكثر، وأن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد كاف للحفاظ على الامن والسلم الدوليين وأن الإصلاح بات أكثر من ضرورة لتجنب الأسوأ، كما أن الدرس الآخر أثبت مدى جدية روسيا في الدفاع عن حدودها الأمنية مقابل ضعف أوربا وبقاء تبعيتها للولايات المتحدة الامريكية، الجانب الأوربي تراجع دوره الاقتصادي أيضا أمام الصين التي تهيمن على أغلبية اسواقه التقليدية وتستعد لغزو الأسواق الاوربية في عقر دارها، والدرس الأهم المتعلق بأوكرانيا والمغامرة بسلامة أراضيها ووضعها تحت رهانات القوى الكبرى، قد تكون الحكمة من الساسة الأوكرانيين ان يضعوا مصالح بلدهم فوق كل اعتبار، فالرهان من البداية كان خاسرا.
