مؤسس أكبر جامعة للنساء في إفريقيا لم يتجاوز عمره العشرين ربيعا، سارع إلى تأسيس مشروعه بعد إحداث توصف بأنها مؤلمة وغير متوقعة، إلا أن المثقف (سيدي تواتي) الذي ظفر بهذا اللقب عربونا احترام وتقدير من مجتمع مدينة بجاية وهي في قمة تألقها الحضاري في العصر الحمادي، لم ينظر وهو يؤسس جامعته التي غلب على طلبتها النساء، إلى حدود مدينة بجاية الحمادية، ولكن كانت صور المنجز الحضاري يسيطر على مخيلته التي تسيطر عليها صورة المنجزات المعرفية في عصره وقد بلغ به الطموح أن ينافس بمشروعه عواصم المعرفة والثقافة العالمية آنذاك يترك في نفوس من يأتي بعده هذا الطموح، ولكن ما يثير الدهشة والاستغراب غياب أمثال هذه المشاريع على ذهنية صناع المحتوى اليوم ومن ورائهم المؤسسات المستأمنة على المنظومة المعرفية والاتصالية للمجموعة الوطنية.
ميلاد المشروع الذكي
في ظروف تراجيدية أقربها إلى المأساوية، في حادثة تاريخية تداعياتها متناثر ومتكاثرة، تأسست جامعة في مدينة بجاية في بداية القرن الخامس عشر ، ولم يمر عليها سوى سنوات قليلة حتى بلغت عدد طالباتها من النساء أكثر من ألف إمراة، ولم تمر سوى سنوات قليلة أخرى حتى أصبحت بعض من تخرجن من هذه الجامعة التي غلب عليها النساء مثقفات وضعنها لمستهن المعرفية التاريخية في مسيرة الثقافة الإسلامية، وبالذات في المحطات المضيئة منها على وجه الخصوص.
فالتوجه نحو الاستثمار في الهوية الذاتية والتراكم التاريخي لتجربة المجموعة الوطنية، من أهم الضمانات التي يفترض أن يتم توفرها لمشاريع ذات امتداد تاريخي، ومهمتها مواجهة التحديات الكبرى التي تنسجم فيها المجموعة الوطنية مع الظروف المستجدة والقابلة للتعامل معها بأقل التكاليف، وتجلب المزيد من الإضافات النوعية التي تدفع بانجازات نوعية تمكن المجموعة الوطنية من التوافق بين التراكم التاريخي وبين الآفاق المستقبلية.
استثمار الامتداد
لقد راهن مشروع جامعة النساء في مدينة بجاية على النظرة الإستراتيجية التي ابتكرها المثقف (سيدي تواتي)، كون الرجل متشبع بالاطلاع على المشهد الدولي في وقته، وهو الفاحص للتحولات الإستراتيجية الجارية في ذلك الوقت، والاهم من ذلك هو الفهم الدقيق للجغرافيا الثقافية/ المعرفية للمجتمعات التي تتنافس على الظفر بقوة صناعة المعرفة، وتوفير تلك الطاقة للقوى والفئات الاجتماعية التي تمتلك قوة الـتأثير اليومي والمتمثلة في طاقة تأثير المرأة.
لقد يتراى للبعض أن جامعة سيدي تواتي في مدينة بجاية كانت تستهدف النساء بالدرجة الأولى وفتح الأبواب أمامهن للانخراط في الديناميكية الاجتماعية الفاعلة، ولكن الهداف الاستراتيجي لجامعة سيدي تواتي كان فتح الأبواب أمام مختلف الفئات الاجتماعية للانتباه للطاقة الفاعلة التي تمثلها المرأة في المجتمع، فالمرأة بإمكانها توريط باقي الفئات الاجتماعية في أي مشروع اجتماعي خاصة إذا تعلق الأمر بالقيام بتغيير جذري في هيكلة المجتمع وإعادة هندسة بنيانه الثقافي/ المعرفي.
المستأمنون على المنظومة
إن مشروع المثقف (سيدي تواتي) لم يوضع من اجل التخلص من مشكلة عابرة ولا محطة تنافسية في وضعية حرجة، وإنما كان خلاصة تجربة ثقافية معرفية اجتماعية اتصالية، حرصت على بناء مؤسسة لإنتاج المعرفة الجماعية وتزويد الجماعة الوطنية بمؤسسة تسأمن على المنظومة المعرفية يتحصن بها المجتمع ويستند عليها في توفير آليات الانخراط في المستقبل، فأصحاب المشروع متأكدون بأن المعرفة هي الأساس الذي يقوم بها المجتمع ويستمر في التاريخ، وذكاؤهم اتجه نحو الاستثمار في الطاقة المتوهجة في المجتمع وهي طاقة (المرأة)، كونها المحرك الاستراتيجي لديناميكية المجتمع، مما يجعل من توطين المعرفة في طاقة المجتمع، هو البوابة الكبرى التي تفتح للمجتمع الانخراط في المستقبل.
وفي الظروف التاريخية الحرجة تكون مهمة النخب العلمائية صناعة الظروف المناسبة لإحداث التحول التاريخي الذي تكون فيه ومعه المجموعة الوطنية تمتلك طاقة المعرفة التي تحميها من الصدمات العنيفة المؤلمة.
الإعلام والتركة المنسية
لقد كان ميلاد مشروع جامعة سيدي تواتي متزامن مع الصعود المعرفي والثقافي لمدينة بجاية وتوسع إشعاعها في حوض المتوسط، وراهن على القوة الدبلوماسية التأثيرية للدولة الحمادية، وهي الجامعة التي تزامنت مع صعود المؤسسات المنتجة للمعرفة في حاضرة الثقافة الإسلامية، وانتباه الفضاءات الدولية الأخرى لأهمية مؤسسة صناعة المعرفة (الجامعة)، والمؤكد في المسيرة الإنسانية تزامن اشتغال مؤسسة صناعة المعرفة مع مؤسسة صناعة المحتوى الاتصالي.
إن تزامن اشتغال مؤسسة صناعة المعرفة مع فعالية مؤسسة صناعة المحتوى الاتصالي، قاعدة متبعة ومتعارف عليها عن عقلاء صناعة القرار في المجتمعات الحية، التي تراهن على تكثيف التفاعل النوعي والذكي بين المؤسستين، للانطلاق في بناء الآفاق المستقبلية للمجموعة الوطنية، التي تستفيد من التفاعل الايجابي للمؤسستين للحصول على الإجابات التاريخية التي تزيل من طريقها العقبات وتسهل سيرها نحو الانخراط في المسيرة الإنسانية.
آفاق المستقبل
قد يكون من المفيد في المستقبل أن ينتبه المستأمنون على منظومة صناعة المحتوى الاتصالي التوجه نحو إعادة بناء النظر في الممارسات اليومية، وإطلاق مرحلة (بذل الوسع الحقيقي)، الذي يقوم على ثنائية (الذكاء والجاذبية)، ليس كما يتصور البعض أن تتلبس هذه المرحلة بإعادة إحياء المنجز التاريخي، فالظروف لا تتقبلها ومنطق الأشياء لايحتملها، ولكن المقصود أن تكون مرحلة مثخنة بالتضحيات واعتماد الجودة والاستبصار بالمضمون والتدثر بكثافة حمولة هوية المجموعة الوطنية، عبر الذهاب نحو شحذ الهمم والالتزام بالجودة والسير في طريق خطة حقيقية، تنبذ التواكل وتقصى العبثية وتتجنب الميزاجية وتتطهر من الانطباعية، وتحرص على التوبة من معصية أخطاء الماضي التي تحولت إلى مشكلة جوهرية تكلف المجموعة الوطنية الكوارث المدمرة.
إن الانتباه الجاد والاستثمار المسؤول في صناعة المحتوى لممتلكات رأس مال الرمزي للمجموعة الوطنية، خاصة في تلك اللحظة التاريخية التي شهدت ميلاد المنجزات الإنسانية، بإمكانه أن يعيد التوهج إلى الذات الجماعية وتعميق ثقتها بنفسها وانطلاقها في صناعة منجزات تاريخية، خاصة بها تعمل على توثيق توقيعها في التاريخ ببصماتها مثل ما فعلت من سبقتها من الأجيال.
