جانت، هذه الواحة المعلقة بين السماء والرمال، ليست مجرد مدينة في أقصى الجنوب الجزائري، بل هي ذاكرة ممتدة عبر الزمن، تنبض بروح الأجداد وتعيش على وقع خطوات من رحلوا. إنها مدينة تحمل في طياتها أسرار المكان وسحر الصحراء، لكن أجمل ما تحتفظ به هو أثر الشيوخ الذين جلسوا يوما في أزقتها، وتفيؤوا بظلال نخيلها، ونسجوا من أحاديثهم اليومية تاريخا لا يقدّر بثمن.
في جانت، كان حضور الشيوخ أكثر من مجرد وجود جسدي؛ كانوا صورة للوقار والسكينة، وحراسا لذاكرة جماعية صاغت هوية المكان. كانوا يجلسون في حلقات هادئة، تظللهم سماء زرقاء صافية، وتحيط بهم رمال تمتد إلى ما لا نهاية، وكأن الطبيعة نفسها كانت شريكة في مجالسهم. عمائمهم البيضاء كانت تعكس النقاء والصبر، وثيابهم الفضفاضة بألوانها السماوية والبيجية كانت تنسجم مع الصحراء حتى يصعب التمييز بينهم وبين المكان.
وجوههم، تلك الوجوه التي خطّ عليها الزمن ملامحه القاسية والرحيمة في آن واحد، كانت تشبه خرائط مصغرة للصحراء نفسها، قاسية في تفاصيلها، لكن ممتلئة بالحياة في أعماقها. كل تجعيدة على جبين شيخ منهم كانت سطرا من قصة طويلة؛ قصة عن سفر في رمال لا تنتهي، عن صبر على قحط الأيام، وعن كرامة لم تنحنِ أمام الصعاب. كانوا يجسدون الإنسان الجانتي في أسمى معانيه: ثابتا كالجبل، رقيقا كنسمة الفجر، وحكيما كأغنية قديمة لا يعرفها إلا من عاشها.
حين كانوا يتحدثون، لم تكن كلماتهم كثيرة، لكنها كانت عميقة كالجذور. كانوا يتحدثون عن الزرع والمطر، عن النخيل والتمر، عن الأفراح الصغيرة والأحزان الكبيرة، لكن خلف كل كلمة كانت تختبئ حكمة، وخلف كل جملة كانت تُبنى قيم. كانوا يختصرون تجارب العمر في كلمات بسيطة، يسمعها الشباب فيصمتون، ليس من رهبة، بل من احترام لمعنى يتجاوز الكلمات.
لم تكن لقاءاتهم مجرد تسلية لقتل الوقت، بل كانت بمثابة مجالس للتربية غير المعلنة. كانوا مدرسة مفتوحة في الهواء الطلق، يتعلم فيها الجيل الجديد معنى الصبر والوفاء، ويكتشف كيف أن الكرامة تُبنى من تفاصيل بسيطة: كلمة صادقة، مساعدة جار، أو موقف شجاع في لحظة صعبة. كانوا يعلّموننا أن الإنسان لا يُقاس بما يملك من مال أو جاه، بل بما يتركه من أثر في قلوب الناس.
ومع مرور الأيام، أصبح حضورهم جزءا من هوية المدينة. لا يمكن أن تُذكر جانت دون أن يُستحضر هؤلاء الشيوخ، كما لا يمكن أن تُذكر الصحراء دون أن تُستحضر قوافلها. كانوا جزءًا من المشهد اليومي: جالسون على الحجارة أو تحت ظل نخلة، يراقبون الناس وهم يمرون، فيحيون هذا، ويباركون لذاك، ويبتسمون للطفل الذي يركض عابرا أمامهم. وجودهم وحده كان كافيا ليشعر المرء بالطمأنينة؛ كأن المدينة ما زالت بخير ما داموا يجلسون في أماكنهم.
لكن الزمن لا يتوقف، والرحيل سنة الحياة. رحل الشيوخ واحدا تلو الآخر، وبقيت الأماكن فارغة كأنها تبحث عن أصحابها. غاب صوتهم الذي كان يملأ الساحة، وغابت ابتساماتهم التي كانت تهدئ النفوس، لكن أثرهم لم يغِب. بقي محفورا في جدران البيوت القديمة، في طرقات المدينة، وفي قلوب الذين عرفوهم. إن غيابهم ليس مجرد فقدان أشخاص، بل هو خسارة لذاكرة حيّة كانت تحفظ توازن المجتمع.
إن رحيلهم جعلنا ندرك أن المدن ليست مباني فقط، بل هي بالأساس بشر وأرواح. جانت، رغم جمال طبيعتها وروعة قصورها، تستمد حقيقتها من ناسها، من الشيوخ الذين حموا قيمها، وحافظوا على أعرافها، ونقلوا تراثها عبر الحكايات والأمثال. إنهم الذين جعلوا من المكان أكثر من مجرد جغرافيا؛ جعلوه بيتا كبيرا يلتقي فيه الجميع.
ومع أن الزمن مضى، فإن الذكريات لا تزال تعيش فينا. حين نمر في شوارع جانت، نشعر أن الأرواح تظلّلنا. الجدران تهمس بما سمعته من أحاديثهم، والأزقة تردد وقع خطواتهم. كأنهم لم يغادروا أبدا، بل انتقلوا إلى حضورٍ آخر، غير مرئي للعين لكنه محسوس بالقلب. الحنين إليهم ليس مجرد عاطفة، بل هو امتداد طبيعي للحب الذي زرعوه فينا.
إن أجمل ما نملكه اليوم هو إعادة استحضارهم، ليس فقط بالصور الفوتوغرافية، بل بالحكايات التي نرويها لأبنائنا. كل مرة نحكي قصة عن شيخ منهم، أو نستعيد نصيحة قالها، فإننا نعيد إحياءه من جديد. الذكريات تصبح حياة ثانية، والرحيل يتحول إلى حضور خالد.
لقد علمونا أن الكرامة لا تُشترى، وأن الصبر هو زاد المسافر في رحلة الحياة، وأن الوفاء للناس هو أعظم ميراث يمكن أن يتركه الإنسان. كانوا يجسدون هذه القيم في حياتهم اليومية، لا كشعارات تُقال، بل كواقع يُعاش. ولذلك فإن رحيلهم لم يقطع أثرهم، بل عمّقه، لأننا كلما افتقدناهم شعرنا بقيمة ما كانوا يمثلونه.
واليوم، نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى أن نتذكرهم. ففي عالم سريع يلهث وراء الماديات، تصبح ذكراهم بمثابة تذكير بأن الأصل هو الإنسان، وأن القيمة الحقيقية تكمن في البساطة والصدق. جانت تحتاج أن تحفظ سيرتهم كما تحفظ قصورها ومعالمها الطبيعية، لأنهم جزء لا يتجزأ من تراثها اللامادي.
في النهاية، حين نقف أمام المشهد ونستحضر الشيوخ الذين رحلوا، ندرك أن الرحيل ليس النهاية، بل بداية لحضور آخر في الذاكرة والوجدان. إنهم باقون ما دمنا نتذكرهم، وما دمنا نعيد رواية قصصهم، وما دمنا نشعر بطمأنينة حضورهم كلما هبّت نسمة على واحة جانت. هنا كانوا… وهنا تركوا أثرهم.
