بقلم أ.د مبروك كاهي – جامعة ورقلة
لقد كانت نهاية القرن العشرين الماضي مأساوية على الصومال، أين اختفى مفهوم الدولة، وبات مصطلح الصوملة مرادفا للفوضى وانعدام الأجهزة والمؤسسات الحكومية المركزية واللامركزية، وقد ساهمت عديد العوامل الداخلية والخارجية في وصول الصومال إلى هذه الحالة الكارثية التي استمرت قرابة العقدين من الزمن، دفع فيها الشعب الصومالي الغالي والنفيس، في ظل الصمت المطبق من المجتمع الدولي وعدم تحمله مسؤولياته في إعادة الأمن والاستقرار وبناء مؤسسات الدولة في هذا الإقليم من القارة الافريقية التي يحتل فيها موقعا جد استراتيجي وهام في القرن الافريقي يشرف على أهم ممر بحري للتجارة العالمية، فبدلا من ذلك غرقت الصومال في مستقنع الحرب الاهلية والجماعات الإرهابية، وخضعت لإملاءات القوى الإقليمية والدولية الباحثة عن ضمان مصالحها في المنطقة واستنزاف ثروات الدولة الصومالية وتهدد وحدته الترابية.
في ظل الحرب الاقتصادية القائمة بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة الامريكية، والصين التي تتمدد اقتصاديا نحو الغرب عبر بوابة افريقيا والشرق الأوسط، والاستحواذ أكثر على المشاريع التنموية الكبرى التي لا تستطيع الشركات الغربية منافسة الصينين فيها في تقديم العروض الأقل تكلفة، تبرز جليا أهمية الممرات البحرية فيها الحرب الاقتصادية القائمة بين الجانبين، ولهذا تقوم طريق الحرير الصيني على توفير الموانئ ذات المواقع الاستراتيجية في الممرات البحرية الدولية، في هذا الاتجاه يبرز الصومال بسواحله الشاسعة والطويلة والتي تستحوذ على الممر الأكثر حيوية في العالم ألا مضيق باب المندب، الذي يربط المحيط الهندي بالبحر الأحمر ومنه مضيق السويس فالبحر المتوسطي.
قبل الحديث على عودة الصومال إلى الواجهة العالمية كدولة ذات المقومات، يطرح التساؤل نفسه هل الصومال لا زالت نموذج للفوضى وانعدام الامن والاستقرار وغياب مؤسسات الدولة، أم حدثت عليها تغييرات جذرية غيرت واقعه إلى نمط جديد، فالمتتبع للشأن الصومالي يلاحظ أن هذا البلد الافريقي الهام قد أخذ بالتعافي، من مرض الفوضى التي تسبب فيها أطراف داخلية وجهات أجنبية دولية وإقليمية وحتى من دول مجاورة، هذا التعافي لم يكن بالأمر السهل، صحيح أنه بطيء لكن يتحقق شيئا فشيئا، فالفوضى سهلة الانتشار وسريعة وغير متحكم فيها ولا يمكن توقع نتائجها الكارثية، في حين استعادة النظام والاستقرار يتطلب جهد مدروس وصبر حتى لا ينهار ويعود الامر بالبلاد إلى المستنقع الأول، فالتجارب المريرة التي مر بها الشعب الصومالي جعلته يدرك أهمية الامن، بالإضافة إلى استعانة الصوماليين بالقوى الدولية الصديقة بما فيها الدول المجاورة بمساعدتها على ضبط الامن والاستقرار، كما أن الاتفاقيات العسكرية المشتركة لا سيما مع تركيا ساهمت في تكوين النخب الأمنية على مختلف مستوياتها للدولة الصومالية، فالأمن هو أساس التنمية ونجاحها ومن ثم تأتي عمليات الاستثمار في العنصر البشري، من بناء المدارس والجامعات وارسال الطلبة للخارج لتعلم تقنيات الإدارة والهندسة والطب وهي ضرورية وأساسية لقيام أي مجتمع، كما يوفر الموقع الاستراتيجي الهام ثقل جغرافي للدولة الصومالية ويجعلها في محط الاستفادة من خط التجارة الدولي الذي يمر بالقرب من سواحلها الإقليمية، الامر الذي يساعدها في العودة سريعا الى المجتمع الدولي وأن تكون أحد ركائز تثبيت السلم والاستقرار الدولي وحتى القاري، بعد أن كانت بؤرة توثر شغلت العالم لسنوات عديدة وأثرت بشكل سلبي على حركة التجارة البحرية العالمية بتعرض العديد من السفن للقرصنة والمطالبة بفدية مقابل اطلاق سراحها واعادتها للعمل، لكن كل هذا تلاشى وبات محدودا ومعزولا مع جهود السلطة المركزية، وتكاثف المجموعة الدولية لإعادة الاستقرار في المنطقة.
فالممر البحري والذي سوف يكون محل تنافس بين الصين الطامح لفرض نفسه اقتصاديا عالميا، والهند الحلف الغربي يجعل من الصومال محل استفادة من هذا التنافس الذي من شأنه أن يجعل من دولة الصومال أحد أكثر البلدان الافريقية سريعة النمو، وينافس الاقتصاديات التقليدية للقارة كالاقتصاد جنوب افريقي واقتصاد دولة نيجيريا وحتى الاقتصاد الجزائري، فالممر البحري والشواطئ الشاسعة للدولة الصومالية التي تضم العديد من المناطق الخلابة، ستجعل منه وجهة سياحية رائدة في العالم بمناخها المعتدل وشمسه الدافئة، مع أرض خصبة لإقامة منشآت فندقية وبنى تحتية لمطارات تربط شمال القارة بجنوبها، وشبكة طرق شاسعة من شأنها أن تسيل لعاب الشركات الاستثمارية الأجنبية ضمن سباق الصراع على امتلاك الممرات البحرية في القرن الافريقي.
والموانئ الصومالية على الممرات البحرية الاستراتيجية لن تكون منطقة عبور أو استراحة السفن التجارية الكبيرة سواء القادمة من الصين أو حتى الدول الأخرى بما الغربية في الاتجاهين، بل يمكن للصومال بموقعه الاستراتيجي الهام أن يكون بوابة للدخول إلى أسواق افريقيا الشرقية علما أن خلف الحدود الصومالية توجد دول حبيسة تضم تعداد سكاني هائل تتقدمه دولة اثيوبيا التي تجاوز عدد سكانها مائة والعشرون نسمة، أي سوق استهلاكية كبيرة قد تلعب الموانئ الصومالية دورا كبيرا في الوصول اليها، وما من شأنه أن ينعكس على الوضع التنموي والاقتصادي للصومال ككل، وهي خطة استراتيجية هامة لمستقبل البلاد في افق عام 2063.
ومن خلال ما تم التطرق إليه وعديد العناصر الأخرى يمكن التوصل إليها من تقارير البنك الدولي ومؤشرات التنمية الأممية، يبرز مدى المؤهلات الكبيرة التي يحتوي عليها الصومال، وما يزيد من تثمينها أكثر فأكثر الثورة الرقمية والاقتصاد الرقمي، الذي جعل عديد العمليات سهلة وبسيطة واختصر سرعة اجراء العمليات والتبادلات التجارية في ثواني عديدة، مما يشجع عمليات الاستثمار الكبيرة وجلب رؤوس الأموال لإقامة البنية التحتية الكبيرة من مطارات بمواصفات عالمية، وموانئ بحرية تسير بأحدث التكنولوجيا مع الشركاء الأجانب، ومجتمع له القدرة العالية على التكيف مع الاقتصادات السريعة والمرنة، كل هذا الامر لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود الامن وتنظيم فوضى السلاح، ووضع حد للجماعات الإرهابية الناشطة في المنطقة وعناصر الجريمة المنظمة بما فيها التي تعرقل حركة التجارة البحرية، وتتسبب في خسائر كبيرة لها.
في خضم هذه الإمكانيات والتحولات التي تعرفها الدولة الصومالية أمام حرب الممرات الحربية، تواجه في ذات الامر تحديات كبيرة ذات العلاقة تعيق عودتها الى المنتظم الدولي واخذ مكانتها الطبيعية فيه، وتزيد من بطء الوتيرة التنموية والاقتصادية للبلاد، هذا التحدي يقوم بالأساس على الوحدة الترابية والمحافظة عليها وفق المواثيق الدولية وقوانين الاتحاد الافريقي، فإقليم أرض الصومال ذو النزعة الانفصالية المتزايدة بدعم من قوى إفريقية وأخرى وظيفية إقليمية بعقد عديد الاتفاقيات خارج النصوص الدولية الناظمة وفتح العديد من القواعد العسكرية الأجنبية فيه، يعيق كثيرا عودته إلى الدولة الام في طابع فدرالي كما كان سابقا، كما أن الاتفاق الأخير الذي تم عقده بين هذا الإقليم ودولة اثيوبيا بالاستفادة من موانئه البحرية مقابل الاعتراف يه أثار حفيظة دولة الصومال رغم أن اثيوبيا تضم مقر الاتحاد الافريقي، وتدرك جيدا اللوائح والقوانين الناظمة للدول المنضوية تحت لوائه، وهذا الامر يدل حقيقة على الحرب الشرسة بشأن الممرات البحرية والموانئ الاستراتيجية التي يمكن انشاءها على السواحل الصومالية، فهذه التوترات تؤثر بشكل مباشر على استقرار المنطقة وأن تعيد شبح الحرب إلى القرن الافريقي الذي يعتبر أحد أكثر المناطق في العالم هشاشة من الناحية الأمنية، يلي هذا التحدي أمر آخر جد مهم مرتبط بانتهاك السيادة الصومالية على مياهه الإقليمية من قبل بعض سفن الصيد القادمة من بحر العرب وحتى من خليج البنغال، كما أن بعض الدول وان كانت التقارير ضعيفة وغير مؤكدة كانت تستغل الفوضى العارمة التي مست الصومال برمي النفايات الكيميائية الخطيرة في سواحل الصومال مما جعلها تتلوث وتسبب أضرارا كبيرة للحيز المرجاني وما ينجر عنه من حركة الأمواج في السواحل الصومالية، وان كانت اعمال القرصنة غير الشرعية رغم تبعاتها السلبية كان لها جانب في حماية هذه السواحل الصومالية أمام غياب سلطة مركزية حقيقية.
ومع ذلك كل المؤشرات في العشر سنوات اللاحقة تدل وتؤكد على عودة الصومال التنموية الى الواجهة العالمية من بوابة الممرات البحرية، بعد فشل كل المخططات البديلة لتغيير طرق التجارة البحرية وتعويضها بأخرى برية وممرات لقنوات بحرية اصطناعية على حساب حقوق الشعوب المستعمرة في فلسطين، وبعض أنحاء العالم، وهذا الامر لا يمكن أن يتأتى إلا بإدراك النخب الصومالية لواقع اللعبة الدولية وتجاوز الخلافات والصراعات الداخلية وحلها داخل مؤسسات الدولة الشرعية، لتكون بلادهم داعما للأمن والسلم والاستقرار، والمدافعين عن صوت القارة الافريقية وحقوقها المشروعة في المنابر الدولية.