بإجراء مقارنة بسيطة في مساحة زمنية تمتد لقرابة نصف قرن من الزمن، يتبين للمتابع الحجم الهائل في طبيعة أداء ونوعية إنتاج المؤسسة الثقافية في المشهد الاجتماعي والثقافي، والمؤشر الأساس في المقارنة هو التعامل مع المناسبات والأعياد السنوية الدورية، والنموذج اليوم هو المولد النبوي الشريف، والمعيار المعتمد هو السلوك الذي تتعامل به المؤسسة الثقافية في هذه المناسبة، وكذلك (المعنى) الذي تنتجه.
المحتوى وصناعة المعنى
وحتى يتبين المقصود هنا، فإن مفهوم المؤسسة الثقافية يمتد ليشمل (الهياكل الرسمية، والكيانات غير الرسمية، والتيارات والشخصيات والمنابر …. )، التي تحصر نفسها وتعلن عن وجودها في مساحة إنتاج المحتوى الديني، معتبرة نفسها أنها تمتلك هوية دينية وحاملة لمضامين ترى أن تلك المعالم هي المحددات التعريفية لها في المجتمع، وهذا المعنى العام الذي نقصده في تعريف المؤسسة الدينية، هو الذي يفترض أن يتم الانتباه له، لكي يتضح الفرق المنهجي بين الجانب الرسمي والجانب الأهلي، دون أن يتم تجاهل المحتوى النهائي في صناعة الخطاب الديني العام، الذي يبقى المجتمع بحاجة ماسة إليه، باعتباره طاقة نوعية تستمد منها الفئات الاجتماعية القدرة على العيش الطبيعي وتساهم به في الحصول على إجابات لأسئلتها التي تمكنها من الانخراط في المستقبل.
وحتى لا يعجل علينا متسرع بالقول، نؤكد أن المفروض أن تستند المؤسسة الثقافية إلى تفعيل الآية الكريمة (وذكرهم بأيام الله)، فتجعل من المواعيد والمناسبات الدينية السنوية الدورية، الفرصة التي تزود بها المجتمع بالمستويات العالية من الوعي والتنوير والدفع إلى التحضر الاجتماعي والارتقاء الفكري والطاقة المعنوية النفسية، فإننا زمن خلال التتبع والتمحيص، نجد سلوكاتها في هذه المناسبات، هي صناعة الإحباط ونشر الملل والتوسيع من الغموض والتكثيف من التخلف.
المنظومة السلوكية
إن الانزعاج الذي تظهره المؤسسة الثقافية مع اقتراب المناسبات والمواعيد الدينية، أصبح ظاهرا وواضحا لا تخطئه أعين العادي من الناس فما بالك بالمهتم والمتابع للمحتوى الذي تنتجه هذه المؤسسة، فزيادة على التبرم والتكرار والدوران في نفس المنطق العام، (لغة وسلوكا ومعاني)، يتراجع مستواه من سنة إلى أخرى، ليس على مستوى السلوك الكلي، وقد وصل إلى مستوى إنتاج المحتوى الذي يراد ترويجه في الساحة الاجتماعية، يساهم في نشر التخلف وبث اليأس وتوسيع الإحباط، وتعميق الشك، وتكثيف الريبة، وزعزعة الثقة، وتضخيم الملل والسأم، مما ينذر بخطر كبير أصبح خطاب المؤسسة الثقافية يشكله على مستقبل الوعي الجمعي والعقل الاجتماعي.
وحتى يتبين المراد هنا، فإننا سنقف عند مجموعة من المعالم الذي تثير الانتباه وتجلي من خلالها المقصود من المشكلة المؤرقة والمعضلة المزعجة التي تشكلها المناسبات والمواعيد الدينية السنوية الدورية، وبالذات سلوك المؤسسة الثقافية من هذه المواعيد، فقد انحصر سلوكها في مستوى (التنشيط)، وغاب أو يكاد يغيب مستوى (النشاط الفعال)، أو (الفعل المؤثر)،وهي الحالة التي تزداد يوميا من خلال ميل المؤسسة الثقافية إلى ممارسة التنشيط والابتعاد عن الفعل، كون منتوجها الاجتماعي ومستوى خطابها الفكري، يتراجع بشكل رهيب، ويظهر ذلك في نوعية الأفكار والأساليب والطرق التي تمارسها المؤسسة الثقافية في الحياة اليومية، فلا يكاد يحصل المتابع على فكرة جديدة أو اجتهاد نوعي أو أسلوب مبتكر أو سلوك نوعي، من المؤسسة الثقافية التي لا تعمل سوى الانكباب عن الرديء من الأفكار والبالي من السلوك والعتيق من الأساليب والمتخلف من ردود الفعل.
التقدير الغامض
وإذا قمنا بإحصاء حصيلة المؤسسة الثقافية في السنوات العشرين الماضية، وإذا حصرناها بالذات في مناسبة المولد النبوي الشريف نجد النتيجة أنها حالة من التنشيط تكاد تكون نسخا مكررة وطبق الأصل(محاضرات ، ندوات، عناوين واحدة، تكريمات، مسابقات، مقالات، حالات، …..)،مما يضع هذه المناسبات في خانة القيام بتسجيل الحضورــــــ سواء أداء وظيفي أو اجتهاد غير رسمي ــــــــ في إطار ممارسة التنشيط، مما يجعل إنتاج المحتوى غائبا تماما، وهو ما أصبح يساهم في توسيع مساحات النفور الاجتماعي والإهمال الجمعي، نتيجة غياب طاقة الإغراء واندثار قوة الجذب للمجموع العام، زيادة على عدم التأثير وإحداث التحول الاجتماعي.
ومما ساهم في الكشف عن مستوى انزعاج المؤسسة الثقافية من المناسبات والمواعيد الدينية السنوية الدورية، عجز هذه المؤسسة عن التكيف مع الثورة الاتصالية الحديثة، فالغالبية العامة من منتوج هذه المؤسسة في هذه المناسبات، يمكن تصنيفه بسهولة في خانة العبث والترف المراهقين، سواء في مستوى السلوك أو الخطاب، وهو ما يعبر عنه السباق المحموم الذي يمارسه مماثلو المؤسسة الثقافية في فضاءات التواصل الاجتماعي، مما يجعل هذا المحتوى محل سخرية وتندر وامتعاض المستهلكين العاديين، ويجد من المختصين حالة من الشفقة عليه وازدراء لأصحابه، الأمر الذي يؤكد الاندفاع غير محسوب العواقب، في التعامل مع الثورة الاتصالية الحديثة، وفي اغلب الأحيان تخلف تلك السلوكات والمواقف العديد من ردود الفعل (المساوية لها في القوة والمعاكسة لها في الاتجاه)، من طرف بعض الفئات الاجتماعية، سواء بدافع إيديولوجي أو حتى فني وتقني عادي، مما يضع المؤسسة الثقافية ومنتوجها في ورطات وأزمات مقلقة، يصعب تبريرها أو التخلص من آثارها، ولكن ذلك الحرج يساهم في تدحرج موقعها في الفضاء الاجتماعي ويبعدها عن الاهتمام الجمعي.
الحرمان المؤلم
ومن المؤشرات التي تبرز انزعاج المؤسسة الثقافية من المواعيد والمناسبات الدينية السنوية الدورية، وفي مقدمتها المولد النبوي الشريف، الغرق في الجدل الذي تثيره بعض التيارات من (شرعية) الاحتفال بهذه المناسبة، فقد أصبح المؤسسة الثقافية محرومة من القيادات والإطارات والشخصيات التي تمارس الصناعة الفقهية، ويكاد يندثر تماما في صفوفها(الفقهية )أو (المفتي)، الذي يمكن أن يجسد هذه الصناعة ويمتلك الكفاءة والقدرة والاحترافية والجاذبية الاقناعية التي تجعله ينتج خطابا فقهيا متناسبا مع المرحلة التي تعيشها مختلف الفئات الاجتماعية.
كما أن روح الإبداع ونوع المبادرة (في المضمون والشكل)، والميل نحو التقليد والتكرار، هو السمة الغالبية على سلوك المؤسسة الثقافية في التعامل مع المناسبات والمواعيد الدينية السنوية الدورية، والسبب يرجع إلى نوعية قيادة المؤسسة الثقافية التي يتراجع مستوى تدريجيا، فهذه القيادة أصبحت (انطلاقا من قدراتها الضعيفة)، تميل إلى تفضيل عنصر (الثقة العاجز)، على نوعية عنصر (المبادر غير المؤتمن)، حتى لا يظهر عجزها ويكشف تكلس فكرها، فتبقى تمتلك القيادة دون أن تجد منافسا لها، والدليل على ذلك أننا نجد أن المتابع المطلع يصاب بالغثيان، من تلك المواقف والسلوكات التي تظهر بها قيادة المؤسسة الثقافية في وسائط التواصل الاجتماعي (صورا، تصريحا، تعامل،…..)، مما يؤكد أن هذه القيادات تجهل تماما طبيعة وفنون الثورة الاتصالية الحديثة، فتكون نتائج ذلك المزيد من الازدراء والتندر والنفور الاجتماعي العام من منتوج المؤسسة الدينية.
