إن الهدف المنتظر من قرار ترسيم المناسبات والمواعيد والأيام الوطنية، هو قيام النخب العلمائية بمهمة إنتاج (المحتوى النوعي) المعنى التاريخي الذي تحتاجه المجموعة الوطنية، باعتبار ذلك المعنى يمثل الطاقة التي يستعين بها المجتمع على تجاوز العقبات التي تعترضه، ويتجنب ما يواجهه من مشاكل وأزمات، ويشكل اليوم الوطني للإمام من المناسبات المهمة التي تتطلب تقديم اعتذار رسمي للعلامة الشيخ محمد بلكبير، الذي يرتبط موعد هذه المناسبة بيوم وفاته، لتفويت الفرصة على امتلاك عنان استحقاق تركة مهمته التي نجح جيله في الظفر بها.
حصيلة التركة
إن الاعتذار المطلوب تقديمه للعلامة الشيخ محمد بلكبير، منتظر من النخب العلمائية التي تؤكد حصيلة عملها أنها لم تقترب من المنجزات التي حققها بلكبير وأغفلت مراد قرار ترسيم اليوم الوطني للإمام،فان كان قرار الترسيم قد تم اتخاذه، إلا أن النتيجة الأساسية المنتظرة من القرار لم تتحقق، والمتمثلة في مهمة النخب العلمائية في الانتقال بالمسجد من حالة الهيكل إلى وضعية المؤسسة، التي تساهم تقديم الخدمات التاريخية (الوعي، التحضر، التعبئة، الانتظام، التعايش، …..) التي تنتظرها المجموعة الوطنية وبالذات في اللحظة الراهنة، والأخطر من عدم القدرة على تحقيق الهدف من قرار ترسيم اليوم الوطني، هو العجز الكبير والإخفاق النوعي في مواجهة الموجة الاتصالية الجديدة الزاحفة، بالرغم من أن (المسجد) في هويته الأصلية هو مؤسسة اتصالية بالدرجة الأولى، وقد أكدت الحصيلة الأولية للنخب العلمائية أنها تحمل وجهين متناقضين، أولهما القدرة الكبيرة التي تظهرها هذه النخب في التراجع (حتى لا نسميها باسمهما الحقيقي) عن الوفاء لجيل بلكبير، عبر الذهنية المتصلبة والأفعال الهوجاء المضطربة غير محسوبة العواقب، وثانيهما، الجهل الكبير والعبثية السمجة التي تطب سلوك هذه النخب، في معاندة ومصادمة ثقافة خوارزميات الثورة الاتصالية الحديثة، حتى تحولت إلى نموذج يساهم في نشر القيم المثقلة والمعيقة لإمكانية انخراط المجموعة الوطنية في المستقبل.
الهدف والمهمة
من الأحاديث النبوية المأثورة قول النبي صلى الله عليه وسلم (مسعر حرب لو كان له رجال)، وان كان الحديث مرتبط بحادثة معينة كانت تستوجب الانتباه لقوة وفعالية أحد أفراد المجتمع وإنتاج ما يناسب من المحتوى الذي يعترف بإمكانيات الفرد والدعوة إلى ضرورة الاستثمار الذكي في قدراته، وحث المجموعة إلى المسارعة إلى العمل الجماعي كون الهدف المرجو واضح والنتائج المنتظرة محمودة العواقب، إلا أن المهم في الموضوع أن النبي (ص) يؤسس لنظرية الاستثمار في قدرات الفرد والاعتراف بإمكانياته، والانتقال من حالة (قدرات الفرد)، إلى موقع فعالية المجموعة (قدرات المؤسسة)، ومهمة الانتقال بوعي المجتمع من حالة (قدرات الفرد)، إلى وضعية (قدرات المؤسسة، تقع على كاهل النخب العلمائية التي تمتلك طاقة فهم المعطيات التاريخية، ومواهب الإدراك النوعي لتداعياتها، ومهارات إنتاج المعنى (المحتوى) المطلوب في حدود الظرف التاريخي القائم، وهو ما يجعل من ضرورة الإسراع بالقيام بمهمة الانتقال بالمسجد من حالة الهيكل إلى وضعية المؤسسة، من أكثر الواجبات واهم المهام المنتظرة اليوم من النخب العلمائية، لان حصيلة هذه النخب أصبحت تشكل خطرا على المنظومة الدينية الجمعية، كون هذه النخب تكاد تفقد اغلب مؤشرات جدارتها، وابسطها الصدام العنيف والنفور الشديد بينها وبين خوارزميات الثورة الاتصالية الجارفة، مما جعلها تتورط في متاهاتها فترتكب السلوكات التي تجعل منها مثارا للسخرية والاستهزاء، كونها تصر على المكابرة والعزة بالإثم، فتنجرف تحت ضغوطهما في المغامرة فيما تكره وتجعل وتبغض من موجات الثورة الاتصالية الحديثة، فتكون النتيجة كارثية ومؤلمة جدا، والشواهد والأمثلة أكثير مما يمكن عده في هذه المساحة.
الإدراك والوسيلة
من المتداول في أدبيات الدينية عندنا أن العبرة في التكاليف الشرعية مرتبط بثمراتها السلوكية على اعتبار ا الأحكام الشرعية هي متعلقة بأفعال المكلفين، وهو الهدف الذي تسعى إليه المنظومة السلوكية التي تعمل على إدارة السلوك الجمعي وإنتاج المعني الذي تحتاجه المجموعة الوطنية، ولعل العلامة الشيخ محمد بلكبير، وغيره من النماذج الوطنية الأخرى قد نجحوا في بلوغ هذا الهدف لأنهم امتلكوا خاصية (مسعر حرب)، على اعتبار أنها الوسيلة الأولى في الوصول إلى النجاح، في المقابل تؤكد الحصيلة القائمة أن النخب العلمائية اليوم، قد حققت مستوى متقدم من الإخفاق وسجلت قدر ا من العجز الواضح في تحقيق الهدف، ولعل السبب بين وواضح، ولا يحتاج إلى كبير جهد في سبر أغواره، والمتمثل في اعتماد جيل بلكبير على وسيلة (مسعر حرب)، وجنوح النخب العلمائية اليوم إلى الاعتماد وسيلة (الثقة العاجز)، وهو ما يجعل الموضوع اليوم يقترب من سلوك خيارين أحلاهما مؤلم، إما استدعاء خيار صلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس القاضي بإغلاق المؤسسة الدينية (الأزهر)، لعجزها عن إنتاج الخدمة المنتظرة منها، وإما التوبة النصوح (ثقيلة التكلفة)، وامتلاك الشجاعة الكافية التي تعلن فيها النخب العلمائية الاعتذار لجيل بلكبير، والانسحاب بشرف وترك المهمة لمن يكون قادرا عليها من الأجيال الجديدة التي ابسط ملامح قدرتها الألفة مع خوارزميات الثورة التكنولوجية الجارفة.
لقد أكدت النتائج المتوفرة اليوم أن الخيارات أصبحت قليلة أمام النخب العلمائية، مما يجعل من الضرورة الشرعية أن تظهر المواقف والسلوكات التي تحمل من الشرف الإنساني والالتزام الديني والوفاء الأخلاقي والحرص على مصلحة المجموعة الوطنية، التي تنتظر اليوم الكثير من الخدمات النوعية ذات البعد التاريخي، لكي تتمكن من حماية مصالحها العليا وتحفظ كيانها الوجداني وتحلم بمستقبل يعيد لها مكانتها ودورها في الحياة.
تكلفة المستقبل
تفرض السطوة المتغطرس للثورة الاتصالية اليوم القيام بواجب شرعي هو من ألزم واوجب الواجبات المتعلقة بالذمة، وإن كانت تكلفتها باهظة الثمن وهي اقرب إلى العملية الجراحية المؤلمة، ولكنها ضرورية لبقاء الجسد وضمان استمرار الحياة فيه، والمتمثلة في المسارعة إلى (التوبة النصوح)، والشروع في مراجعة النظر وتنفيذ إعادة الهيكلة البنيوية ورسم خطوط هندسية جديدة، من اجل الانتقال بالمسجد من حالة الهيكل إلى زمن المؤسسة، والسعي إلى اكتساب مهارات (مسعر حرب) والتوبة من (الثقة العاجز)، التي تساهم في إنتاج المعنى التاريخي الذي تحتاجه المجموعة الوطنية، لكي تتجنب المزيد من الخسائر وتتوجه نحو المستقبل الذي تكون فيه هذه المؤسسة عامل تنمية وبناء ومفتاح من مفاتيح المستقبل.
إن الحلم بإمكانية الذهاب نحو تفعيل منهجية جيل بلكبير، والقيام بواجب التوبة من معاصي عدم الوفاء لهذا الجيل كون الجيل الأقرب إلى زمننا، والمسارعة إلى امتلاك الشجاعة الكافية التي تجعل من النخب العلمائية اليوم، والذهاب إلى امتلاك مهارات وقدرات التعامل بسلاسة مع ثقافة خوارزميات الثورة الاتصالية الحديثة، من خلال التحول نحو طاقة (مسعر حرب)، والتخلي النهائي عن دروشة(الثقة العاجز)، وغيرها من التكاليف المطلوبة، هو ما يمكن أن يقدم بشرف إلى جيل بلكبير في اليوم الوطني للإمام.
