تطرح الأزمة السودانية نفسها كأحد أبرز مظاهر فشل عمليات التحول الديمقراطي، ليس فقط على الصعيد الافريقي فحسب وانما أيضا على المستوى العالمي، الدولة السودانية وعبر تاريخها الحديث عرفت العديد من الصراعات والانقلابات العسكرية والحروب أهلية وصل بها الامر الى انفصال الجنوب، واتهام قادة نظامها السياسي بارتكاب جرائم حرب في إقليم دافور، مما حرك العدالة الدولية وإصدار مذكرات توقيف دولية ضد رموز نظامها السابق الذي يحكم قبل ما يعرف بأحداث الربيع العربي الذي هزت أركان النظام الإقليمي العربي واحدثت فيه تغييرات جذرية لا تزال آثارها ترتد يوم بعد يوم.
ما يعرف بأحداث الربيع العربي كانت فرصة للنخب السودانية لإنهاء القطيعة مع الممارسات السابقة التي تسببت في تمزقه وفقدانه لجزء مهم من اقليمه وخروج آخر عن السيطرة، النخب السودانية كانت ترى في رياح التغيير التي مست المنطقة العربية لإحداث التغيير المنشود وتحقيق الإقلاع الاقتصادي والتنموي والمصالحة المجتمعية الكبرى، ويكون السودان دولة وقوة في منطقة القرن الافريقي وله مكانة على مستوى الافريقي والعربي في نصرة القضية المحورية وهي القضية الفلسطينية، لقد كان أمل النخب السودانية كبير في عمليات التغيير واستلام الحكم كما كان الامر واقع في بعض الدول العربية القليلة جدا التي كان فيها التغيير سلميا وغير دمويا، وباشرت على تنفيذ مخططها السياسي بكل آماله واخفاقاته، إلا أن النخب السودانية كانت في حال صدمة مما حدث لدولتها والوضع الذي وصلت اليه من انقسام حاد بات يهدد ما بقي من سيادة.
إن المتتبع للنخب السودانية ودورها في العملية الديمقراطية، سيجد ان المسار التاريخي للبلاد ساهم بشكل كبير جدا في تحييد واضعاف دورها وعجزها عن احتواء الانقسامات المجتمعية، فالبلاد ما ان كادت تنهي فترة الانقلابات العسكرية، حتى تجد نفسها في حرب اهلية طاحنة أكلت خيرة شباب السودان بين شماله وجنوبه، الذي كان مدعوما بشكل كبير جدا من قوى دولية وإقليمية انتهت بتقسيمه، لم يكن للنخب السودانية القدرة على ابراز دورها في الازمة، فالسلطة القائمة في تلك الفترة كانت سلطة طوارئ وترغم الجميع على الالتفاف حول ما يعرف بالدفاع عن الوحدة الوطنية، دون فسح المجال لسبيل ثالثة تقودها النخب السودانية قد تفضي لحوار وطني من شأنه ان يحقن دماء الجميع والخروج بنتائج ترضي طرفي الازمة، بل هذه الفترة واجهت بعض النخب العديد من التضييقيات والمتابعات القضائية وتقييد الحرية، وما كادت أزمة الشمال والجنوب تنتهي حتى يتم التقاط الانفاس لتنفجر أزمة إقليم دافور والانتهاكات الجسيمة التي حدثت فيه مما جعل السلطة في مواجهة المنتظم الدولي الذي تعامل معها بحزم واعتبار ما يحدث يتجاوز مسألة السيادة وما قامت به السلطة هو جريمة حرب تستوجب المتابعة القضائية في الجنائية الدولية، النخب السودانية كان لها الموقف الواضح اتجاه السلطة، ان المعالجة الخاطئة دليل على ان السلطة لم تستوعب دروس الامس وتكرر الأخطاء ذاتها.
ومع اشتداد الازمة الحالية وتزايد تدخل القوى الوظيفية والدولية في تأجيج الصراع المسلح، بين السلطة الانتقالية والسلطة المناوئة لها والتي أعلنت عن تشكيل حكومة موازية، تجد النخب السودانية نفسها أمام مفترق طرق حقيقي لإنقاذ ما تبقى من البلاد، والحفاظ على اللحمة المجتمعية، ومن الصعب أن تكون للسلطة الفعلية الوقت الكافي للاستماع لأصوات النخب السودانية ومعرفة رؤيتها للحل وانهاء حالة الانقسام والصراع على السلطة، وأمام هذا الرهان التاريخي تجد النخب السودانية نفسها على إيجاد بدائل مناسبة لحل الازمة وحل المشكلات الحقيقية التي تعاني منها الدولة السودانية وعلى رأسها التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
إن أول تحدي للنخب السودانية الحفاظ على التماسك المجتمعي وعدم الوقوع في الصراع الطائفي والعرقي، الذي من شأنه ان يقوض التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع السوداني، فتحول الازمة من صراع السلطة الى تصادم عرقي وطائفي من شأنه إدامة الازمة وتعقيد حلها وصعوبة الوصول الى مصالحة وطنية حقيقية، وهو ما وقعت فيه عديد الدول الافريقية ودفعت الثمن غالي، قد لا تستطيع النخب السودانية إيقاف الصراع السلطوي بين الفرقاء، لكن لها القدرة من منع تحويله الى صراع طائفي وعرقي وذلك بالتأكيد على أهمية الروابط المشتركة والقيم السودانية الجامعة لمختلف مكونات المجتمع، والتمسك بالتاريخ المشترك والثوابت الوطنية، وإدانة صريحة لكل خطاب قد يحمل في طياته الاثنية العرقية والطائفية، فالنخب السودانية هي تعبير عن الهوية الوطنية، وإذا كان هذا التحدي الأهم والابرز فهناك تحديات أخرى لا تقل أهمية في انتظار النخب السودانية، وهي التعريف بالقضية الوطنية في المحافل الدولية والالتقاء بنظرائهم من النخب في الدول العربية وحتى الغربية، لتبادل الآراء والتأكيد على الموقف الموحد للنخب السودانية في ضرورة انهاء الصراع ومباشرة الحكم المدني الحقيقي، فاستخدام مختلف وسائل التعبير الكلاسيكية والحديثة لا سيما وسائط التواصل الاجتماعي من شانه ان يعطي للراي العام العربي وحتى العالمي الصورة الحقيقية لما يحدث في ارض السودان والقوى الوظيفية التي تعمل على تعطيل الحلول واستدامة الازمة وانهاك مقدرات الدولة السودانية، والامر لا يتوقف عند هذا الامر كذلك، فالعاتق الأكبر على النخب السودانية ان تبدي إحساس المسؤولية والاستعداد لقيادة البلاد حال انتهاء الازمة والمرحلة الانتقالية والقيام بحوار وطني جامع غير مقصي، يتبادل فيه الجميع في اطار الدولة السودانية لتحديد المعالم والاولويات، وتجنب الإخفاقات التي من شأنها ان تفتح المجال لعودة الممارسات القديمة والسابقة واستمراريتها، ومع استمرارية تقهقر الدولة السودانية وغياب فاعليتها على المستوى الإقليمي والافريقي وحتى الدولي في ظل التحولات العميقة والجوهرية التي يعرفها النظام الدولي، النخب السوداني يقف على عاتقها اعتماد النموذج الديمقراطي الحقيقي النابع عن الهوية والشخصية السودانية والمحافظ على الثوابت الوطنية والداعم للقضايا العربية والافريقية وعلى راسها القضية الفلسطينية، النموذج المحلي والمستوحى من مكونات المجتمع السوداني هو وحده صمام الأمان والذي يقف حائلا وجدار صد متين امام تدخلات القوى الوظيفية والدولية، مسؤولية كبيرة وثقيلة في انتظار النخب السودانية، والمجتمع المحلي له كل الثقة في انها سوف تنجح وتنقد ما تبقى من السوادان.
