من أجل فهم سلوكات النخب الغربية القائدة اليوم، وبذات إدراك خلفيات وأبعاد تسابقها نحو الاعتراف بدولة فلسطين، وما تقدمه من شروط استباقية تعجيزية لهذا الاعتراف، ويتجاهلون سحب وعد بلفور المشؤوم، نحتاج إلى تفحص الخلفيات الفكرية المؤسسة والمفسرة لقرارات الاعتراف، واستكشاف بواطنه المستقبلية على القضية والمنطقة برمتها.
معركة الخلاص
ألف عام من السيطرة العالمية، هو مشروع الحلم الذي صنعه الإنجيليون الجدد، وسوقوه بصيغتين، يهودية ومسيحية، وبالرغم من العداء الدفين والبغضاء الشديدة بينهما إلا أن الإنجيليون الجدد،تمكنوا من صناعة تحالف وثيق بين اليهود والمسيحيين، المتنافسون على استقدام المسيح المخلص، والذي لن يأتي إلا بعد معركة (الارمجدون)،التي تسعى النخب الغربية صناعة القرار إلى توفير كل الظروف والأدوات التي تقرب موعدها، وتزيل كل أدوات تأخيرها، كون هذه النخب تتطلع إلى ممارسة السيطرة الكونية على العالم والتمتع بثمرات والغنائم الهيمنة الكونية.
فالعقل السياسي الغربي وبالذات صانع القرار فيه، (الذي يتطلب من النخب العلمائية عندنا دراسته والانتباه إلى آليات عمله)، يشتغل بآليات الإنجيلية الجديدة، وهو ما يجعل النظرة إلى مستقبل منطقة الشرق الأوسط تقوم على المفاهيم والمعاني الدينية التي تم تحويرها وفق المصالح والنزعات الغربية، التي ينكشف يوميا كذبها على الآخرين، من خلال تناقض دعواتها إلى اعتماد العلمانية وأبعاد المفاهيم والمعاني الدينية عن الممارسة اليومية، وتصر على فرض تلك المفاهيم على الآخرين، ولكنها تمارس وتعتمد التفكير الديني من اجل تحقيق مصالحها.
إن التقاء النظرة الدينية (اليهودية والمسيحية)، في بناء هندسة العلاقات الدولية، ينذر بمشهدية قادمة تجعل من إمكانية تصور معالم خارطة مستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط، تقع تكلفة تنفيذها على كاهل أصحابها ومن ثرواتهم، وتضعهم تحت رحمة المصالح الغربية التي لا تكتفي بالإشباع بل تمتد إلى حدود التخمة، خاصة وأن الصراعات الكونية تتزايد وتيرتها وتدور رحاها، تحت اكراهات قلة الموارد وارتفاع مستويات الاستهلاك.
مناورة الاعتراف
قد يظهر للبعض أن موجة اعتراف الحكومات الغربية بما يسمى (الدولة الفلسطينية)، إنها دعم مهم للقضية، إلا أن هناك مجموعة من المعطيات يفترض الانتباه لها، من أهمها لقد سبق للأمم المتحدة أن أصدرت قرار تقسيم فلسطين سنة 1948، وعدم جرأة الغرب على سحب (وعد بلفور)، الوثيقة التأسيسية للكيان، ومع هذا يرفق الغرب اعترافه بشروط أهمها، نزع سلاح الفلسطينيين، ومنع جزء منهم من حقهم الطبيعي في إدارة بلدهم، ويتجاهلون حق العودة، وفوق هذا يعترفون بدولة مجهولة الحدود الجغرافية.
إن السباق المحموم للنخب الغربية صانعة القرار إلى إعلان الاعتراف (بدولة فلسطين)، دون أن يتم تحديد الحيز الجغرافي لهذا الاعتراف، يفضح المزيد من الزيف والمناورة في خطابها، ففي الوقت الذي تعلن فيه عن اعترافها، تستعد لتنفيذ خرائط عراب الهندسة الجغرافية (برنالد لويس)، التي أعدها لتتناسب مع عنوان (الشرق الأوسط الجديد)، في الوقت الذي تفاوض النخب صانعة القرار في الشرق الأوسط على مساحات هامشية يمكن أن يتفضل بها الغرب عليها.
إن النخب الغربية صانعة القرار، لا تتردد في تنفيذ مخططاتها التي تحقق أعلى درجات مصالحها، دون مراعاة مواقف واهتمامات ومشاعر وتطلعات الآخرين، وقد تم تنفذ ذلك في العديد من المناطق ليس خارج إطار الحاضرة الغربية بل حتى في وسطها والكل يتذكر خرائط (دايتون ) في البلقان في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وقد حول مساعد وزير الخارجية ريتشارد هولبروك تلك الخرائط إلى نموذج يدرس في الجامعات الغربية، ومنحها قابلية التنفيذ في مساحات جغرافية أخرى.
إنتاج الأوهام
منذ بداية القرن الثامن عشر والغرب يصنع الأوهام ويصدرها للشرق الأوسط، فمنذ أن صنع الغرب (الأتراك) عدوا وغرسوه في أذهان العرب، ووعدوهم بالمساعدة (المال والسلاح والتخطيط)، وتحققت إستراتيجية الغرب المتمثلة في (ظلم الترك العرب، فخان العرب الترك)، تراجع الغرب عن وعوده الوهمية، واستيقظ العرب على خرائط (سايسبيكو)، التي شردهم شذر مذر، ودخلوا في نفق الصراعات والحروب، وأيقظ الغرب في نفوس العرب، مشاعر حروب داحس والغبراء وملاحم معارك البسوس، بعدما سبق للغرب أن وفر المناخ النفسي والجو العقلي لانتعاش هذه النفسية.
فالسودانيون يتقاتلون، واليمنيون يغرقون، والليبيون يتبعثرون، والسوريون يتخاصمون، واللبنانيون يتصادمون، وقائمة العبث بالدماء وتدمير الممتلكات تطول وتتوسع على مساحة منطقة الشرق الأوسط، والنخب الغربية صانعة القرار، تتباكى على الوضع وتحاول أن تظهر تعاطفها المزعوم في النهار، وفي الليل تزود الجميع بالسلاح والأموال وترفع من مستوى النفخ في النيران.
فالنخب الإنجيلية الغربية لا يهمها انتصار إسرائيل، ولا يعنيها هزيمة خصومها، وإنما الذي يشغل بالها ويحرك آليات تفكير مخابرها، كيفية صناعة الأدوات وتوفير الأجواء المساعدة على استقدام (المسيح المخلص)، للوصول إلى زمن سعادة الألف عام، ومن اجل تلك المساحة الزمنية، يمكن القيام بكل ما هو متصور وتنفيذ كل الخطط والمشاريع، ولا تهم التكلفة مهما كانت باهظة، فالنفط يأتي من الشرق الأوسط والأموال تخرج من هناك والاستهلاك يتسارع إليه أهل المنطقة والضحايا من أهلها، والأرباح تصب في جيوب النخب الغربية صانعة القرار.
السلام المستحيل
إن مستقبل منطقة الشرق الأوسط يتم تحديده وفق التفكير الصهيوني الإنجيلي، وتجليات المخططات التي يراد تنفيذها على ارض الواقع، وان كانت محبكة بطريقة ذكية وهندسة محكمة، إلا أن عوامل ضعفها تكمن في الروح الاستكبارية والسلوكات التعسفية والنفسية الاستحواذية، التي تشكل العقلية الصهيونية الإنجيلية، التي تشكلت على احتقار الآخرين واستباحة حقوقهم ونهب ممتلكاتهم، وعدم الاعتراف بوجودهم، وهي الذهنية التي تجد اليوم تصويغها في الخطاب الإعلامي الذي تقوم مؤسسات صناعة المحتوى الاتصالي تشكيله وتسويقه في مختلف المنصات التي تتحكم فيها، وتدير آلياتها وفق نظرتها الدينية وبأساليب ذكية تمررها إلى بواطن عقل الأجيال الجديدة في منطقة الشرق الأوسط.
إن الوثائق المؤسسة لتفكير النخب الصهيونية اليوم في الشرق الأوسط والمحددة لطبيعة سلوكاتهم، قد تمت عمليات صياغتها في أزمنة (الأسر البابلي)، والذي يحدد النظرة إلى الآخرين وبالذات سفر (اشيعيا)، مما يجعل من المؤسسات الإعلامية الغربية، تنخرط في حملة تضليل كونية تبعد المضامين الحقيقية لأهداف مشاريع (التحالف الإنجيلي الجديد)، الفرصة المناسبة للتنفيذ على ارض الواقع وإعادة تشكيل هندسة منطقة الشرق الأوسط.
كل المؤشرات تؤكد أن مستقبل منطقة الشرق الأوسط، يصنع خارج التصريحات والمواقف المعلنة قادة الغرب، فهي تصريحات استهلاكية لإلهاء المغفلين وأصحاب النوايا الطيبة من أبناء المنطقة، والحقيقة تكمن في وثائق مخابر التفكير المتخصصة التي تديرها الإمبراطوريات الإعلامية والمالية النافذة، وفق توجيهات واستراتيجيات الإنجيلية الجديدة، في الوقت الذي تستمتع النخب العلمائية عندنا بغرقها في أوحال التخلف والانحطاط.
الدكتور: محمد بغداد
