لا تزال الذاكرة البشرية والإنسانية تحتفظ بتلك الصور البشعة الناجمة عن أعمال التطهير العرقي والابادة الجماعية، التي حدثت في منطقة البلقان بالبوسنة والهرسك على وجه التحديد، أين أقام الصرب عديد المحتشدات والمعتقلات يتم تجميع فيها مسلمي البوسنة من أجل تعذيبهم وقتلهم بأبشع الطرق على شاكلة القرون الوسطى، في تسعينيات القرن الماضي أين يفترض ان العالم وصل لأعلى درجة الإنسانية ومضي أكثر من أربعة عقود على نهاية الحرب العالمية الثانية، والمؤسسات الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الإنسانية الحكومية وغير الحكومية والتطور التكنولوجي ما كان ليسمح بحدوث تلك المجازر، وحدها سريبينتشا القرية الجبلية البوسنية كانت شاهدة على نفاق الغرب والكيل بمكيالين، هذه القرية التي تحصنت بالجبال المحيطة عمل الغرب أو ما يعرف بقوة السلام بنزع أسلحة سكانها البسيطة التي كانوا يرجون ان تحميهم وتحمي أطفالهم من عنجهية وجبروت الصرب المتعطش للقتل والابادة الجماعية، ومع ذلك قوة حفظ السلام سلمتهم للصرب لكي يمنع عنهم الطعام ويجعل منهم اشباه بشر ويمارس العنف الهمجي والاغتصاب الجماعي والمجازر التي يعجز العقل البشري على ادراكها واستيعابها، تلك المجازر لم تحدث حتى في أوج الحرب العالمية الثانية، ولم يكن العالم يعلم عنها سوى في روايات حروب القرون الوسطى اين لا قانون لا محاسبة، الغرب بكل مؤسساته كان متورطا في اعمال الإبادة الجماعية التي حدثت على أراضي القارة الاوربية، رغم انه تحرك بعد ذلك لمتابعة مرتكبي هذه المجازر وتقديمهم للعدالة الدولية ومع ذلك بقي العار لصيقا بهم.
ما حدث في سريبنتشا هو ما يحدث حاليا في غزة الفلسطينية المحاصرة والمدمرة، لا فرق مجازر الإبادة والتطهير العرقي قد لا يكون الغرب مشتركا فيها بطريقة مباشرة فهو متواطئ ويدعم جرائم الكيان الصهيوني، أهل غزة المحاصرين منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن كانت مطالبهم واضحة رفع الحصار والمطالبة بالحياة الكريمة والتمتع بالحقوق الأساسية مثلهم كسائر البشر دون العرض للتمييز العنصري الممارس من قبل الكيان الصهيوني، هذه المطالب كانت نفسها التي رفعها مسلمي البوسنة والهرسك بإقامة دولتهم المستقلة، كما فعل غيرهم الكروات والسلوفنيين والمقدونيين، ولعل الغرب كان من الصعب عليه ان يتقبل وجود دولة مسلمة كاملة السيادة على حدوده الجغرافية رغم ان البوسنيين هو مواطنين أصليين وأصحاب الأرض منذ قرون عديدة، فسمح لنفسه ان يصمت بل ويرعى مجازر الإبادة الجماعية التي مارسها الصرب وتبقى سريبنتشا وحدها شاهدة أن الغرب مهما تطور وامتلك مؤسسات قانونية يبقى له ذلك الوفاء والحنين لأعمال الإبادة والتطهير العرقي التي مارسها على أراضيه في القرون الوسطى فيما بينهم، أو حتى الوحشية غير مبررة إزاء شعوب والسكان الأصليين للمستعمرات التي كانت تابعة له في افريقيا وآسيا والامريكيتين وحتى شعوب المحيط الهادي، فلا غرابة أن تكون غزة كاشفة لزيف ونفاق الغرب الذي طالما تغنى بالمدنية والحداثة وسيادة القانون.
غزة تعرضت لحصار شنيع وقصف همجي من قبل الكيان الصهيوني بل وتم استعمال أسلحة حربية محرمة دوليا ضد المدنيين قد تصل حتى لأسلحة الدمار الشمال من قبيل البوسفور الأبيض، والقنابل العنقودية، غزة باتت أشبه بمحتشد سريبنتشا، لا طعام لا دواء لا مياه عذبة، وحتى الوصول للحصول على المساعدات أصبح بمغامرة ثمنها الموت حتما، أين يعمد قناصة الكيان الصهيوني وطائراته المسيرة والملغمة لاصطياد وقتل المدنيين الذين يحاولون الحصول على بعض المساعدات لسد رومق جوعهم وجوع أبنائهم، أمام انظار العالم، بل ويقصف المستشفيات ويعمد الى قتل الأطباء واصابة المسعفين ويمعن في جرائمه وينشر الموت ويصر على قتل الحياة، فالأمر يتعدى ما كان يحدث في القرون الوسطى.
ما يحدث في غزة أبشع مما حدث ل سريبنتشا رغم ان الجرم واحد، اعمال التطهير العرقي والابادة الجماعية التي حدثت في سريبنتشا كانت في جنح الظلام وبعيدا عن اعين وسائل الاعلام وتكشفت فيما بعد، وكان الغرب يخجل منها ولعل الخجل كون الاحداث وقعت على أراضيه، والمؤسسات الدولية تحركت متأخرة، لكن في حال غزة ما يقوم به الكيان الصهيوني لا يستوعبه العقل في القرن الحادي والعشرين، قتل همجي وابادة ممنهجة ومحاولة محو مدينة تعداد سكانها يتجاوز المليونين من الخريطة وترحيل ما بقي من الساكنة إلى الصحاري في الدول المجاورة، كل هذا والمجتمع الدولي عاجز حتى عن الإدانة الصريحة حتى لا أقول التدخل ووضع حد لهذه الجريمة النكراء، حتى العدالة الدولية لا تملك الأدوات الكافية لجلب مجرمي الحرب رئيس وزراء الكيان الصهيوني ووزير دفاعه لأروقة العدالة كما كان الشأن لمجرمي الحرب الصربيين، بل أن الولايات المتحدة الامريكية توفر لهم الحماية وتدافع عنهم، وتعمل على ابتزاز قضاة الجنائية الدولية وتعمل على تهديدهم بمنعهم من دخول أراضيها في حال ما بقوا على اصرارهم بمتابعة هؤلاء المجرمين، الغرب الذي يحن الى جرائم الإبادة والتطهير العرقي لم يتأخر منذ طوفان الأقصى بإرسال مئات الأطنان من الأسلحة عبر جسور جوية لم تحدث حتى في الحرب العالمية الثانية للكيان الصهيوني ليرميها على رؤوس المدنيين العزل في غزة، رغم أن توافر بدائل سلمية للحل ومنح اهل غزة العيش الكريم والتمتع بالحقوق الأساسية مثلهم كسائر البشر في هذه المعمورة.
رغم كل هذا ويتوقع ان تصل عنجهية الكيان الصهيوني ذروتها وان تتجاوز حقد الصرب على مسلمي البوسنة والهرسك، وتواطؤ الغرب اكثر فأكثر، فإن اهل غزة والمخلصين في الشرق الأوسط والعالم ككل والمؤمنين بعدالة القضية سوف تنتصر وينكسر جبروت الكيان الصهيوني والغرب المتواطئ مع جرائمه، هذه ما كانت لتحدث لولا تواطؤ الغرب الليبرالي الاستعماري الذي له حنين ووفاء للإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
