بقلم : لخضر عبد العزيز
تثير مناخات إعداد الشاي وطقوس احتسائه عند التارقي ملك الصحراء رمزية تؤلب منظومة ضخمة من الأساطير والشعائر والممارسات الأنثروبولوجية… وتهتز تركيبة هجينة من المعتقدات المتوارثة من الحضارة الفرعونية التي تأتلف حولها أنطولوجيا الإنسان الصحراوي ذو الامتداد التاريخي . كما تبدي بعضا مما توارى من ميتافيزيقا شعب الطوارق التقليدي، وطمرته اللامبالاة وجعلته طميا ثقافيا من الصعب نكشه . وقد استعصى على المثقف البحث فيه والغوص داخله نظرا لمدى المتلاطم المكاني والزماني ، والتمدد عبرها لملاحقة شوارد الموضوع وتبيين شططه، فوجب الجمع بين المقاربة الميثولوجية والرؤية التيولوجية، دلالة تطفر من لونه، أو تطفح بها نكهته “الإلهية”، أو تفيض من كثافة رغوته.. تكون كافية لتحريك ترسانة تاريخية نفسية وثقافة شعب تمتد جذوره في التاريخ لآلاف السنين.
ولعل أهم أمر يثير الاهتمام عند الطوارق أن الشاي في حد ذاته قد رشح كفة الرجل في إعداده عن المرأة كاختصاص رجالي يحتكر الرجال تحضيره، كما احتكرت النساء العزف على آلة الإمزاد وتبقى النساء دون مراتب الجودة فيه . ولعل من أبرز الروائيين الذين وضعوا للشاي فلسفة خاصة الروائي ابراهيم الكوني في رواية البئر حين قال : لا يستطيع أن يتقن الشاي من لا يتقن العشق” شؤون تحميص الشهوات على درب تجويد الشاي إلا من أوتي براعة عشق النساء وتمتع بالصبر والحكمة، ..؛ وهي صفة غالبا ما تفوت طيش الشباب ونزقهم، فيذهبون في تحضير الشاي مذهبهم العجول في إدارة تصاريف العشق. ويحرمون من كنوز متعته ويتخلفون عن شهقة ذروته؛ صدقني صناعة الشاي الأخضر مثل طقوس العشق تحتاج إلى الصبر والإتقان، تحتاج إلى أن تضع فيها قطعة من قلبك تصب فيها جزء من روحك، وإذا كان هؤلاء الصبية يعشقون زوجاتهم كما يحضّرون الشاي فإن تطليقهن منهم حلال لن ألومهن إذا طالبن بالطلاق. إن إعداد الشاي شيء يشبه صيد الغزلان. لن يكون لحم الغزال شهيا حقا إذا لم يكن الصياد يعشق الغزلان .
ولكل هذا يُصبح الشاي عند الطوارق من الأولويات التي تحرص معظم الأسر المحلية على تقديمها للضيوف كتعبير عن مدى الحفاوة والاستقبال، ما يجعل من هذا المشروب التقليدي ركناً أساسيا ليس للضيافة فقط بل أيضا كتراث يعرض على الضيف نوع من أنواع المتاخمة التقليدية التي يسعى الجميع إلى اقتناء أنواع فاخرة منه وبمبالغ باهظة أحيانا. فقط لإظهار الكرم والضيافة لأنه أصبح نوع من الاعتقاد أن الكأس الواحدة منه جزء من الروح التي تمنح وبذلك يصبح له طقوس أقرب إلى الميثولوجيا من الحاجة البيلوجية طقوس أشبه بالملكية لها أوقات معينة يتم إعداده فيها. لذلك حافظ الإنسان الصحراوي على ما يصطلح عليه ب “جيمات الشاهي الثلاثة ”، وهي الجماعة، إذ من الأفضل أن يتم تناول الشاي مع الجماعة، وكلما كثر عددها كان ذلك أفضل فتتدثر وحشة الحياة الصحراوية وتتندى جفوتها، وإليه تفيء الأجساد الجافة المتعبة من قساوة الصحراء مع نار الوهج المنبعثة من كومة جمر الحياة التي تترجم في جمر الطلح الحارق إلى انسيابية الوعاء الفوار؛ وهو ينثر رذاذ رطوبته بخورا يدور في الأجواء إيذانا بطقس القداسة الجامع لأصحاب أموال – اللثام – يضوع بشذى النداوة والإرتواء. إذ تمثل جلسات الشاي وطقوس الاستقبال، انقطاعا نعيميا في هذا الجحيم المسترسل من الخارج والداخل . اجتماع لأناس طحنتهم الحياة الصحراوية كدملة اعتراضية في نص الحياة . متنفس بعيد المدى ؛ يخرج بها الصحراويون المنهكون من شظف العناء اليومي وعنته، ويدخلون في هناءة السائل الرمادي اللون الممزوج بالخضرة ” طازج الحيوية في خضرته” يرتشفون تعاسة الحياة منه هروبا من التعاسة الحقيقية متناسيين جراحهم القديمة منذ زمن بعيد ، ويستدعون الصور السائلة للمادة التي يثيرها من حوله، “فالعالم قبل أن يكون نسقا من الأدوات، هو مجموعة من الأغذية وحياة الإنسان في العالم ،لن تبتعد من خارج الأشياء التي يعشقها في عرف هؤلاء ، الشاي شيء من الجماعة فهو جامع الجماعات معين الملذات . ومن طقس الشاي نتعلم شيئا لا يختلف عما نتعلمه في التراث الشعبي في مدننا الحضارية المزيفة وهو أن المتع العابرة والمقابلات القصيرة تصبح قيما أبدية عندما تحفر لها موضعا في الطقوس والحجارة
،التجمع يكسب صفة الشعور الجماعي والأمان الجمعي حيث يتحدث هذا الأنا عن نفسه بصفة الجمع لا الفرادى ويرمز لفلسفة التحضر الحقيقية ومتعة المشاركة و النظر للشاي طقوس لها أعظم الأثر في تهذيب النفوس و التجانس في العلائق الإنسانية والطبيعية به تهدأ لأعصاب ويعبق عطره خاليا الدماغ به ليطغى الحبور وينتشر السرور ويتعانق الماضي وحكايات الأجداد بالحاضر ،غالبا ما اعتبر رمز للود بين الناس أنيس للإنسان في الأحزان لهذا قيل :” الشاي خمر المناضلين والثوار”، الشاي مجمع الفنون الصغرى والكبرى حتى غدا عندهم فنا وقبسا سحريا من يد اعتادت على الحذق والجمال ويكتسي بعدا جماليا في طريقة تعليبه بفنية جذابة تخرج للبهجة وتمتع الناظر التي تدخل فيها فن الزخرفة والخط والصور حيث يغازل الكبار والصغار ولكن يبقى حكرا على الذكور إعداده لا على النساء ويزيده بهاوة وطراوة الذى احتدم الصراع في الكأس الثالثة مع محاكاة النعناع ليتنافس من ينال الإعجاب ومن يتغلب شذاه على الآخر في رمزية حياتية مقدسة . ويفوح شذى النعناع من الكؤوس معلنا الانتصار لكن في الثالثة فقط . فنكهة الشاي تأتي كمحصلة لمجموعة من النكهات المختلفة الداخلة في تكوينه، ما يتسق مع الفلسفة الشرقية التي ترى جميع الكائنات مترابطة،
و “الجيم الثانية ”، كناية عن استحسان إطالة المدة الزمنية لتحضير الشاي، وهو شرط يتيح للجماعة فرصة تناول أمورها بروية وتأن، والجمر، إذ من الأفضل إعداد الشاي على الفحم، ومن الفضيحة إعداده على الغاز أو الوسائل الكهربائية الحديثة للضيف ألم أقل أن له طقس ديني وجب الاهتمام به وعدم ترك النواقض تقضم عقيدته . حيث يمتد تحضير كؤوس الشاي الثالثة إلى مدة لا تقل عن الساعتين و فوق وتشترط فيه الرغوة وهي بمثابة عمائم بيضاء يتوج بها كؤوس الشاي بالتقليب فالكؤوس التي لا رغوة فيها لا تشربها الجماعة بل ترفضها وتشعر بالتقزز لذلك يجب عدم الإسراع بإعداده أو صبه دفعة واحدة بل المطلوب من معد الشاي التأني والتريث وأن يطيل المدة بين الكأس الأولى والثانية التي تليها حتى يطول السمر بين المتسامرين ويطرحوا انشغالاتهم ويتبادلون الأخبار فيما بينهم وهو محور ومدار المجلس للتأنق في الحديث فيبدأ الاستحسان الذي يرمز للاستمرارية والديمومة والعشق واللذة .
فالاستحسان كما يقول ابن حزم يعود إلى خاصية نفسية بحتة وهي أن النفس نفس خيرة في ذاتها لا ترتبط إلا بكل صور الكمال والجمال أحد معايير الكمال لأن القبح نقص في الخلقة فتنفر النفس منه فهي بذلك في بحثها عن الصورة الجميلة تعهد إلى صفة في ذاتها فالاستحسان طبيعي في النفس للصور لأن الحسن هو شيء ليس له في اللغة اسم يعبر عنه غيره ولكنه محسوس في النفوس باتفاق كل من رآه ففي إعداده نجد الكأس الأول يتفوق في النكهة مثل الميلاد الأول والثاني يتفوق في الطعم مثل الجوى والعشق والثالث يتفوق في الشذى مثل الموت وفي كلتا الحالات أنت تعيش حوارا داخل الذات مع لذة طعم وعبق نكهة تلهمك مزيدا من الأفكار أو تترجم دفئك إلى معاني جميلة هربت من واقع قاس خارج الكؤوس فالكأس الأولى تكون أكثر الكؤوس الثلاث مرارة ترطب الشفة والحلق وترمز للميلاد والثانية تكون حلوة حين تعيش الحياة ولا تريد مغادرتها والثالثة تحتسيها بإشفاق لأنك تعلم أنها النهاية مثل الوفاة
تجمع بين الحسية والروحانية في حضرة الشاي الملهم تنجلي الهموم وتنشرح الصدور وتسر الوجوه، الشاي يعوض وحشة الصحراء يقال :”بعد تناول الكأس الثالث تبدأ المناقشات الحادة والمواضيع المطروحة للنقاش فقد انتشت الذاكرة وتعطر اللسان واستنهضت الهمم فلقد ارتبط الشاي منذ القديم في اليابان بالتفكير ، فتقرأ على موقع kintea فقرة معبّرة من قبيل “إن شرب الشاي هو التفكير والتفكير أن تكون ساكنا وأن تستمتع باللحظة. الشاي هو جوهر اليابان، وهو أكثر من مجرد مشروب”. وبنفس المعنى، يمكنك أن تقرأ على إحدى اللوحات الصينية فقرة من قبيل “إذا شربت كوبا واحدا من الشاي الصيني، فسوف تشعر بالراحة والاسترخاء. بعد أن تشرب الكوب الثاني، ستشعر بالسعادة وسيشعر عقلك وكأنه يطير. وعندما تشرب كوبك الثالث، ستختفي كل مشاكلك وهمومك”.
فإذ ترتبط القهوة بالخرافة والميتافيزيقا، لأنها تعد واحدة من وسائل قراءة الطالع ومعرفة الغيب، لا لكونها تنطوي على سر يمكّنها من جلاء صورة المستقبل، وإنما بسبب قوامها السميك، وطبيعتها التي تشبه الرمال، ما يجعلها صالحة للنقش العشوائي المفتوح على كل الاحتمالات. فإن الشاي عند ملوك الصحراء يرتبط بالواقع والحياة ككل كنوع من الانزواء للتفكير في مدارات الحياة الثلاث الولادة ،العشق ،والموت وسأكمل الكأس الثالثة كي أفكر بما سيمليه علي الشاي التارقي لأبوح به لكم مرة أخرى .